جرى اليوم (٢٢ يونيو ٢٠٢١)طرح ما وصف ب(مبادرة حمدوك) وهو رئيس الحكومة الانتقالية بالسودان ، وحملت عنوان ( الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال- الطريق الى الامام).
عناوين ( المبادرة) تناولت (مظاهر الأزمة العامة وخطرها على الانتقال)و(الوجه الجديد للأزمة وخطرها على السودان)و( أسس التسوية السياسية الشاملة)،كما قدم مقترحات شملت (اصلاح القطاع الأمني والعسكري)و(قضايا العدالة)و(قضايا الاقتصاد) و(السلام )و(السياسة الخارجية والسيادة الوطنية)
اعلان (المبادرة) ربما يشكل خطوة لرمي حجر في مياه راكدة، أو محاولة لتبرئة الذمة، والتنصل من بعض أدوار سلبية .
أيا تكن الأسباب فان طرح (المبادرة) في هذا التوقيت يثير تساؤلات عدة، بشأن خفايا الدوافع أو(نذر) ما وصفه حمدوك ب(الواقع المخيف).
في هذا السياق، هل تتحمل ( القيادات العسكرية والحزبية وحدها) مسؤوليات المأزق الراهن ، ما دور رئيس الحكومة في الاخلال بالالتزام ب( الوثيقة الدستورية) باعتبارها المرجع وصمام الأمان رغم نواقصها ؟
ما مدى التزامه ب(اعلان الحرية والتغيير) الذي توافقت عليه (قوى التغيير) رغم أنه يمثل خطوطا عريضة وعناوين ،لكنه يحمل مباديء وقيما وطنية؟.
في رأيي أن النقاط التي وردت في ما سمي ب(المبادرة) ليست جديدة تماما أو محل اختلاف بين قوى سياسية وشعبية سودانية ،اذ جاء ت عناوينها ونقاطها (بطريقة أو بأخرى) في آراء طرحها سياسيون وصحافيون ، بينهم كاتب هذه السطور في مقالات عدة .
على سبيل المثال لا جديد بشأن الكلام عن ضرورات (توحيد الكتلة الانتقالية) وحالة (التشظي بين القوى السياسية، وبين المدنيين و العسكريين ،والعسكريين والعسكريين) و(اصلاح القطاع الأمني والعسكري)و(تعدد مراكز القرار بشأن السياسة الخارجية) و(استكمال عملية السلام) مع قوى ما زالت تحمل السلاح.،وأهمية(تكوين المجلس التشريعي)،اضافة الى كلام بات مكررا عن (المشروع الوطني)من دون فعل ملموس، تقترن فيه الأقوال بالأفعال.
الجديد أن النقاط جاءت للمرة الأولى في (مبادرة) طرحها رئيس الحكومة المدنية الانتقالية ،وتحسب له هذه الجرأة،اذ كانت هذه الروح مطلوبة منذ يومه الأول في رئاسة مجلس الوزراء عندما كان محاطا بنبض الملايين .
التساؤل مشروع عن أسباب هذه الشفافية (المفاجئة) و(الناقصة ) أيضا في (المبادرة).
لماذا (المبادرة) الآن ، ماذا استجد في تفكير رجل يتولى رئاسة حكومة ثورة شعبية وسلمية ،ووجد التفافا شعبيا لم يجده منذ سنوات عدة أي قيادي في عصرنا هذا ، لكنه فشل (على سبيل المثال) على مدى عامين في الاحتكام الصارم الى (الوثيقة الدستورية) و(اعلان الحرية والتغيير) .
كما فشلت حكومته (الأولى والثانية ) الحالية حتى الآن في وقف التدهور الاقتصادي الذي أحال المواطنين الى جحيم ، رغم الخضوع للابتزاز الخارجي،كما فشلت الحكومتان – وفقا للواقع المعاش- في بسط الأمن ووقف قتل المدنيين ؟
قال حمدوك إن (الوضع مخيف) واتفق معه في هذا التوصيف ،لكن هل يؤشر هذا الى فشل الرهان على الخارج بعدما مورست سياسة داخلية لم تحتكم لأولويات الشعب الذي فجر ثورة شعبية لأهداف محددة؟
في الشارع تساؤل: هل يشعر السيد رئيس الوزراء الآن أن موقعه في خطر بعدما فشلت محاولات استقواء ( ببعض الوجوه الحزبية والعسكرية) في وقت سابق على حساب قوى الشارع صانعة الثورة التي جاءت به وبالسلطة الانتقالية كلها الى مواقع المسؤوليات الكبرى ؟
في الشارع السوداني تساؤلات عدة وبينها..
هل دكتور حمدوك (وهو شخصية محترمة و احترمها على الصعيد الانساني و الشخصي) قادر على حل الأزمات التي تمسك بخناق المواطن حاليا،أم أنه بات (للأسف الشديد- جزء من الأزمة، وسببا من أسباب استفحالها؟.
لا يختلف اثنان عاقلان بأن المشهد السوداني مختنق وينذر بأسوأ النتائج ،وقد كتبت غير مرة عن ذلك، وشددت وأشدد على ما اعتبره مصادر الخطر الكبري ،وهي تكمن في انتهاك المؤسسية(من عسكريي المجلس السيادي وحمدوك أيضا) ،كما نبهت وانبه الى مخاطر غياب الشفافية والصدقية في الخطاب السياسي الحكومي .
قلت في حوار مع تلفزيون(بي بي سي (فور انتصار الثورة الشعبية في السودان في ١١ أبريل ٢٠١٩ أن أكبر التحديات في الفترة الانتقالية يكمن في مدى قدرة قوى (الحرية والتغيير) التي قادت الثورة على مواصلة العمل الجماعي، وحذرت من التناحر السياسي، وعدم التعلم من الدروس ، واجترار الغبائن القديمة ، وكررت هذا الكلام كما كررته أصوات سياسية وصحافية .
المشهد الآن يوضح أن من أهم أسباب الصراع المحموم عدم الالتزام بما ورد في (الوثيقة الدستورية)رغم ما فيها من نواقص،ويتحمل دكتور حمدوك بعض المسؤولية عن ذلك،اذ سمح لعسكريي مجلس السيادة أن يتمددوا خارج صلاحياتهم الدستورية وعلى سبيل المثال فشل (مثلا) حمدوك حتى الآن في تكوين مفوضيات نصت عليها الوثيقة الدستورية.
قادة الأحزاب وتجمع المهنيين الذي قاد الثورة منذ يومها الأول بجدارة واقتدار يتحملون مسؤولية (التشظي) على الساحة السودانية، وبالتحديد يتحمل ذلك من تنكروا للنص الدستوري ،ومن ركضوا الى كراسي الحكم (الساخنة)،ومن غضوا الطرف عن أولوية اصلاح أحزابهم،وعقد مؤتمرات متواصلة ،لتضرب أمثلة حيوية على (التداول السلمي للسلطة ) داخل كل الأحزاب،من أقصى اليمين الى اليسار .
عسكريو مجلس السيادة يتحملون مسؤوليات كبيرة في تردي الأوضاع، اذ انتهكوا (الوثيقة الدستورية) وتمددوا داخليا وخارجيا وكرسوا سياسة محاور،وواصلوا السيطرة على مؤسسات اقتصادية مهمة كما قال أخيرا رئيس الوزراء، وتحكموا في مؤسسات أمنية ولم يبسطوا الأمن والطمأنينة،والدليل وقوع أحداث تؤكد اضطراب الوضع الأمني .
في سياق تداعيات الأزمة الراهنة بالسودان انتقدت في مقالات عدة وتعليقات اذاعية وتلفزيونية سياسة المحاور، وقلت إنها ضارة،وتضرب استقلالية القرار،وبالمقابل لوحظ اهتمام رئيس الحكومة حمدوك بالخارج أكثر من الداخل، رغم ان استقرار معادلات الداخل هو الذي يستقطب الدعم الخارجي .
لا ادعو الى اهمال بناء شبكة العلاقات الخارجية فهي مهمة وحيوية في عالم بات أصغر من قرية ،تؤثر دوله وتتأثر بمحيطها والعالم ، لكنني أرى أن الثورة الشعبية السودانية هي التي قدمت السودان الى العالم بسلميتها الباهرة و الرائعة، وبوعي شبابها من الجنسين،وأن دول العالم كلها ستركض نحو السودان،لتحقيق مصالح مشتركة اذا استقر الوضع السياسي والأمني .
لكن(قادتنا) يحبون (الركض) الى الخارج أكثر من التحامهم مع الشارع الثوري والمواطن الموجوع والصابر الى حين.
في هذا السياق أشير الى أن (السلطة الانتقالية) قد خضعت -ويشمل ذلك مجلس السيادة والحكومة برئاسة حمدوك- لنهج الابتزاز القبيح الذي مارسه الرئيس الأميركي( السابق) دونالد ترمب ،ورئيس الوزراء الاسرائيلي (السابق) بنيامين نتانياهو.
لكنهما سقطا (انتخابيا) بارادة الناخبين رغم خدمات (الأصدقاء) في السودان ،وبات (أصدقاؤهم ) في حيرة،وكنت قلت أن خضوع السلطة الانتقالية لابتزازهما يعبر عن افلاس سياسي وبؤس في الخيال السياسي.
في تحليل وتعليق في فضائية (فرنسا ٢٤) قلت قبل أشهر عدة إن (السلطة الانتقالية في السودان انتحرت سياسيا)،وما زلت متمسكا بهذا الرأي،وهاهي تطورات الأحداث والأزمات الخانقة بالسودان تؤكد (الانتحار السياسي للسلطة الانتقالية)ويشمل ذلك (حكومة حمدوك الأولى ، وربما الثانية على طريق الانتحار السياسي) .
كي يتم تجنب الانتحار السياسي للمرة الثانية ،ولتنجح أية خطوة تهدف لإحداث اختراق في المشهد السياسي المأزوم، فان دكتور حمدوك في مسيس الحاجة الى مكاشفة نفسه ومصارحتها ومحاورتها أولا، كي يتمكن من اقناع (عناصر التشظي) الأخرى بضرورات جمع الشمل.
اقناع الآخرين، وخصوصا القوى السياسية والمهنية وقوى الشارع الشبابية يحتاج أيضا الى أن يلتزم رئيس الحكومة ببرنامج (قوى الثورة والتغيير ) اذا كانت تمثل (الحاضنة) وليست لديه حاضنة أخرى ، وأن لا يفرض رؤاه وبرنامجه ، ويكفي الاشارة الى ما يردده على سبيل المثال مشاركون في (المؤتمر الاقتصادي) بأن حمدوك ضرب عرض الحائط بقرارات وتوصيات المؤتمر.
هل هناك دليل على مدى مساهمته في (تشظي القوى السياسية)أكثر من ذلك؟
بداية طريق الحل لأوضاع التشظي لا تبدأ ب(مبادرة حمدوك) رغم ايجابية ما جاء في سطورها من نقاط وأفكار ، بل تكمن في أن يدرك الجميع(العسكريون والأحزاب والمهنيون وقوى الكفاح المسلح وحمدوك) أن هناك مشكلة أكبر.
المشكلة الأكبر أن البون الشاسع بين (السلطة الانتقالية) وقوى الشارع (وفي صدارتها شابات وشباب الثورة) والمواطن المغلوب على أمره يزداد اتساعا يوميا .
واقع الحال يؤكد أن الجالسين على كراسي الحكم لن يستقر حالهم مع اتساع دائرة الغضب في أوساط الشعب ومن صنعوا الثورة بدمائهم ودموعهم،وخصوصا اذا استمر تجاهل (أولويات الثورة وبرنامجها) .
أية سلطة تسقط أولًا في أعين الناس قبل سقوطها من فوق الكراسي ،ولا سبيل لتكريس الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي الا عبر الاحتكام الى (الوثيقة) الدستورية و(إعلان الحرية والتغيير) وتطويرهما،وتحديد برنامج متفق عليه ويستمد حيويته من شعارات الثورة (حرية،سلام،وعدالة) ما يعني أيضا توفير متطلبات العيش الكريم للانسان السوداني .
أكرر أن أية (مبادرة )لن تنجح الا اذا تم الاحتكام الى المؤسسية والشفافية والصدقية..
لن تنجح أيضا أية سلطة انتقالية من دون الالتزام الصارم بالمؤسسية والشفافية والصدقية..
أي في غياب التزام السلطة الانتقالية -ويشمل ذلك الحكومة الانتقالية ورئيسها – بالمؤسسية والشفافية والصدقية يتحول الكلام عن هذه (المبادرة) أو أية محاولة لرأب الصدع الى ما يشبه النحت في الماء أو الرسم في الهواء.
محمد المكي أحمد- لندن- ٢٢ يونيو ٢٠٢١
صدقت اخي محمد .. الشفافية تكاد تكون معدومة مع انها اساس الملك شكرا لك