أمريكا سيدة العالم الان لانها حافظت على التداول السلمي للسلطة داخلها لأكثر من مئتين سنة، وليس لأنها بلد الحقوق والحريات، فطيلة المئة ونصف سنة الأولى من تاريخ أمريكا المستقلة كان النظام السياسي والاجتماعي الأمريكي نظاما عنصريا ضد السود، ولم ينتزع السود حريتهم الا في ستينيات القرن الماضي، ولكن طيلة هذه المئة سنة ونصف لم يحكم أمريكا رئيس واحد لأكثر من دورتين، لذلك سر نهضة أمريكا لم يكن الحقوق والحريات وإنما استقرار التداول السلمي للسلطة، لذلك لا يهم ما هو واقع البلاد السياسي او الاجتماعي بقدر أهمية استقرار التداول السلمي لارفع منصب في الدولة وهو منصب الرئيس، التداول السلمي للرئاسة سيقود مع الأيام لتحقيق كل شيء، الحقوق والعدالة والسلام والقوة الاقتصادية والعسكرية والمالية.
لذلك الذين يدعون للانتخابات ينظرون من هذه الزواية، زاوية أن هدف الثورة الاول كان طرد الدكتاتور المسيطر على السلطة بصورة فردية وتحويل كرسي السلطة ليكون متاح لجميع السودانيين بالانتخابات، لهذا مطلوب منا جميعا نخب سياسية وعسكر وجماهير ان نؤمن بالتداول السلمي لرئاسة الجمهورية، أن نتواثق على أن لا يصل شخص إلى مقعد الرئاسة بدون انتخابات، هذا هو الوعي المطلوب وهذا هو أعظم ما يمكن أن تبلوره الثورة في أعماق الجميع.
الثورة ليس مطلوب منها ان تصل الى السلام (كسر رقبة) خلال الفترة الانتقالية، مما يجعله سلام تهافت وليس سلام قناعة، سلام هش وليس سلام راسخ، ليس المطلوب من حكومة الثورة ان تقهر الإسلاميين وتحولهم إلى منبوذين إلى الابد، فالحكومات ليس من ادوارها صناعة ثقافة الكره او القهر وإنما صناعة ثقافة التسامح والعفو والوحدة، هذه القيم التي قد يستهين بها البعض الآن، هي في الحقيقة ما سيصنع الأمة الواحدة في المستقبل، وتجاهلها هو ما سيصنع الأمة الممزقة الآن وفي المستقبل، كذلك ليس المطلوب من حكومة الثورة إرغام الجنجويد على تسليم اسلحتهم، وصلبهم وشنقهم في الشوارع، فهذا لن يقود إلى التعافي الوطني ولا الاستقرار، كل هذه القضايا – السلام وتفكيك التمكين وحل مليشيا الجنجويد- أقل أهمية من دعوة الجيش والأحزاب والجماهير إلى التواثق على بناء نظام تداول سلمي للسلطة، ما يحدث الآن وما ظل يحدث طيلة الفترة الماضية من الفترة الانتقالية هو استهلاك للجماهير في إنجاز أهداف بلا أهمية على مستوى بناء الامة، وتجاهل للأهداف الكبرى التي تصنع المستقبل وتبريء جراح الأمة وتوحدها، لذلك لابد من إيقاظ هذه الجماهير وتوجيهها في الطريق الصحيح.
ومن هذا المنطلق فإن تطويل امد الفترة الانتقالية من أجل إنجاز أهداف ثانوية وتأخير تحقيق الهدف الأساسي هو ترتيب معكوس للاولويات، صحيح أن ثورة ديسمبر هي ثورة ولكن لا يمكن تشبيهها بالثورة الفرنسية مثلا او الثورة الأمريكية او حتى الثورة المهدية، فهذه ثورات جاءت في عهود مظلمة وفي زمان لم يكن هناك وجود لمفاهيم السلطة الحديثة وحقوق الانسان، الآن ثورة ديسمبر قامت في عهد تبلورت فيه هذه الحقوق وأصبحت معلومة للكل، لذلك لسنا في مرحلة بناء وعي بالحقوق في اوساط الجماهير عبر حكومة انتقالية، الغش على انفسنا وعلى الجماهير بهذا الدور واقناع العامة بتأخير الانتخابات بغرض رفع الوعي الجماهيري هو كذبة كبرى، فالوعي بالديمقراطية لن تكتسبه الجماهير الا أثناء معايشتها وممارستها للديمقراطية نفسها، الديمقراطية تكتسب بالتجربة وليس بالحصص ولا الخطب.
رغم ان الجميع يتحدث عن فشل الدولة السودانية ولكن الحقيقة الدولة السودانية نجحت في إقامة ثلاثة أنظمة ديمقراطية، عدم تواثق الجميع على التداول السلمي للسلطة هو الذي قطع سلسلة النجاح هذه، وبالتالي نحن في حوجة إلى ايمان جمعي بالتداول السلمي للسلطة، بحوجة إلى ميثاق لحماية الديمقراطية أكثر من مبادرة لتوحيد قوى الثورة، بحاجة للجنة لحماية التداول السلمي للسلطة أكثر من لجنة لازالة التمكين، بحاجة إلى لجان مقاومة لإقامة نظام التداول السلمي للسلطة وحراسته أكثر من لجان مقاومة لدعم او إسقاط حكومة انتقالية، نحن بحاجة إلى إعادة فرمطة لاذهان تم تعبئتها بصورة مغلوطة وتوجيهها نحو الهدف الحقيقي وهو تسليم السلطة للشعب صاحبها ومالكها وحارسها الأمين.
sondy25@gmail.com