يبدو واضحاً أن الدكتور حمدوك ذكي وبارع في العزف على عواطف السودانيين.
ففي رأيي ا لمتواضع أن الرجل صمت دهراً لينطق عاطفة وتخديراً وذراً للرماد فوق العيون.
والمؤسف دوماً أن الناس في بلدي (سيما المستنيرين) يهدرون زمنهم ووقت أفراد هذا الشعب المغلوب على أمره في أمور لا تغني ولا تسمن من جوع، ويتداولون باحتفاء مُحير العبارات الإنشائية، ويستنكرون طرح التساؤلات المشروعة فقط لأنهم يحبون سماع كلام البضحك.
ما تسميه بعض صحفنا، ويكتب عنه الكثير من مثقفي هذا البلد تحت عنوان ” مبادرة رئيس الوزراء للخروج من الأزمة الوطنية” يؤكد ما ذكرته أعلاه بما لا يدع مجالاً لأدنى شك.
فبدلاً من تداول ما أسموه بمحاور المبادرة والاسهاب في الكلام العاطفي عن شخصية حمدوك كرجل وطني غيور على مواجهة أزمات البلد، كنت أتوقع أن نطرح السؤال الأهم المتمثل في: ” كيف يطرح رئيس حكومة ثورة مبادرات لحلول مشاكل وأزمات لو لا وجودها لما اشتعلت الثورة التي مكنته من هذا المنصب أصلاً.
إذاً الطبيعي والمتوقع والمفروض على أي رئيس حكومة ثورة هو أن يحول شعارات الثورة التي أتت به لواقع ملموس، ويحقق الأهداف التي خرج من أجلها شباب الوطن ليقدم بعضهم دماءهم الطاهرة الزكية مهراً لها.
من السذاجة بمكان أن نتعاطى مع ما نطق به حمدوك على أنها مبادرة جديرة بالاهتمام والإشادات لنضيع الوقت في مناقشتها وتناول بنودها ومحاورها.
فمعظم ما تضمنته (الإنشاء) التي ضجت بها الصحف والأسافير وسخر لها العديد من الزملاء أعمدة صحفية بالكامل ليست سوى تلك المطالب التي ضحى من أجلها أكرم أبناء هذا الوطن في وقت لم يكن يعلم فيه أفراد شعبنا شيئاً عن دكتور حمدوك الذي يصوره البعض حالياً بأخلص الرجال الوطنيين المتبقين في هذا البلد.
هي أهداف وشعارات ثورة ديسمبر ذاتها لا غيرها، أي أن حمدوك لم يأت بشيء من رأسه أو كراسه.
بل على العكس فقد صمت حمدوك دهراً ولم يجرؤ هو وطاقمه على تطبيق شعارات ثورة ديسمبر المجيدة وتحويلها لواقع يعيشه الناس.
ما الجديد بالله عليكم في محاور مثل ” إصلاح القطاع الأمني والعسكري، والعدالة، والاقتصاد، والسلام، وتفكيك نظام “30 يونيو”، ومحاربة الفساد، والسياسة الخارجية والسيادة الوطنية، والمجلس التشريعي الانتقالي” حتى نسميها بمبادرة حمدوك لحل الأزمة!!
وإن لم تكن هذه من أهداف ثورة ديسمبر العظيمة، فلماذا هب الشعب وقدم التضحيات أصلاً!!
الرجل يمارس علينا تذاكياً غير محبب بالنسبة لي شخصياً ولا يلاقي أي هوىً في نفسي كما يحدث مع الكثيرين للأسف الشديد.
وكلما ضاقت الأمور رأيناه ساعياً لتقديم مهديء أو مُخدر لا يداوي، لكنه يطيل من غفلتنا، إلى أن يأتي يوم يذوب فيه الوطن بالكامل، وحينها لن ينفع الندم.
ولو كان حمدوك جاداً وصارماً وراغباً حقيقة في حل أزمات الوطن، لما أهدر يوماً وحداً في صمته المريب.
فمنذ توليه المنصب كنا نتوقع أن يعمل هو وطاقم حكومته على تفكيك نظام الثلاثين من يونيو، فهذا أحد أهم وأبرز عناوين الثورة يا سادة.
لكنه انتظر كل هذه الفترة وبعد أن أعاد (المقاطيع) تنظيم أنفسهم ووجدوا متسعاً من الوقت للتآمر على الثورة، وهربوا من أرادوا تهريبهم من سجن كوبر، وأدخلوا الهواتف بالعشرات لداخل السجن، وتواصلوا مع بقية أراذل القوم بالخارج، وأنهكوا هذا الشعب المُتعب أصلاً بالمزيد من الأزمات.. بعد كل ذلك خرج علينا حمدوك ليضمن في مبادرته (الوهمة) محوراً أسماه تفكيك نظام الثلاثين من يونيو، فيا للعجب!
إن تخلينا عن العوار السياسي الذي نمارسه وتخيلنا أن دكتور حمدوك مجرد مدير عام لشركة صغيرة وسألنا أنفسنا هل سيأتي هذا المدير كل شهر أو شهرين بمبادرات لـ (تحنيس) موظفيه بأن يؤدوا واجباتهم، أم أنه سيصدر قرارات واجبة التنفيذ، لو فعلنا ذلك لوصلنا لحقيقة أن الرجل يمارس الضحك على الذقون.
فإما أن يصدر رئيس وزراء حكومة الثورة قرارات حاسمة ويتابع تنفيذها أو أو يقر دون مواربة بفشله في المضي قُدماً في جعل شعارات الثورة واقعاً يعيشه أهل هذا البلد.
ليس بيننا من ينكر تعقيدات الوضع بفعل خبث ومُكر وخيانة (المقاطيع) الذين حكموا هذه البلاد خلال العقود الثلاثة الماضية وأزلامهم وفلولهم الحاليين.
لكن حمدوك وشلته وقوى الثورة عموماً ساهموا في استدامة هذه الظروف المعقدة يوم أن تماهوا مع مؤامرات العسكر وسلموهم ملفات لم تكن تخصهم في شيء وفقاً للوثيقة المثقوبة.
بدأت قوى الثورة تآمرها على هذه الثورة بتفويض شخصيات ضعيفة لصياغة الوثيقة، قبل أن يُكلموا دورهم القذر بتهدئة الشعب الثائر بعد مواكب الثلاثين من يونيو التي أرعبت العسكر، وإقناع هذا الشعب بشراكة مجحفة وغير متكافئة.
ثم بعد ذلك تنازل حمدوك وبقية المدنيين في الحكومة عما منحته لهم وثيقتهم الكارثية من صلاحيات.
فهل غاب عن حمدوك كل ذلك طوال الفترة الماضية، حتى يحدثنا عن (مبادرة) لحل الأزمة الوطنية بعد هذه الأشهر الطويلة التي ازدادت فيها الأوضاع تعقيداً!!
إن لم يكن ما تقدم استهبالاً سياسياً فكيف يكون الاستهبال بالله عليكم!!