فيديو يصوِّر زيارة الملكة إليزابيث إلى السودان أثار فى نفسى كل نقائضِ أحوالها فتركها بين حنين إلى ماض تولى وترقُب لمستقبل أتمنى ألا يكون سراب بقيعة يصوِره لى ظمأى أنه ماء.
كم هى ساحقة المقارنات أحيانا”… كان فى إستقبال إليزابيث د. التجانى الماحى رئيس مجلس السياده وقتها، وهو المجلس الذى ضم أسماء تفوق السِماك علوا” ولمعانا” وائتلاقا”،لويجى أدوك وإبراهيم يوسف سليمان ود. مبارك شداد ود. عبدالحليم محمد. مجلس أنوارو آخذه بدون سلوك، أناس ينضحون علما” وأدبا” ويضجون رقيا” وسموا”. سياده وزياده.
تقدمت الملكه بضع خطوات على البساط الأحمر لتطوق طفلات أربع عنقها بالزهور والورود وكان إستقبال الملكه بحد ذاته حدثا” فريدا”، فقد إصطف الألآف فى شوارع الخرطوم لتحيتها وعلى ذات النسق والبهرج إستقبلتها لاحقا” عروس الرمال.
نعم ، كان لازم تمشى الأبيض كيما تعرف على أرض الواقع قصة الزول السمح صوره ال بالفاتحه بندورا ، فالجمال فى عروس الرمال شيء طبيعى إلهى كما هى المواسم ، والأبيض ظلت على الدوام تسرى الكواكب فى سماواتها ليلا” وتمشى على الأرض نهارا” وبالناس المسره، تشهد أى حفل فيها أو تمر بأى شارع ترجع تغنى لاقيتو باسِم زهر المواسم. وأنا على ذلك من الشاهدين.
فى مرافقته للملكه، حكى لها التجانى موجز تاريخ أجدادها منذ ريتشارد الثالث حتى إنبسطت،فقد كان التجانى بحرا” لا شاطئ له فى المعرفه، وقد كتب أحدهم أن الملكه إليزابيث أعربت عن دهشتها للمستوى الثقافى العالى لذلك الماحى،وبالطبع كان مرجعا” فى تطبيب الأنفس وقيل أنه أول سايكاتريست فى أفريقيا، كما أنه كان مرجعا” فى الفنون وقوقل فى ثقافات الشعوب والأنساب وكان عازفا” ماهرا” على آلة البيانو إضافه إلى أستاذيته فى اللغتين العربيه والإنجليزيه ولغات أخرى يقال بينها اللاتينيه القديمه.
كتب صديقى الزاكى عبدالحميد نقلا” عن د. حسن أبشر الطيب صهر الماحى ، عليهما الرحمه، وكم أسعدنا حسن بلقاءات جميله فى سنوات عمله بمسقط،أن التجانى كان مهتما” بأصعب أنواع الترجمه وهى ترجمة الشعر وأن له ترجمة رائعة لقصيدة نزار قبّانى “خبزٌ وحشيشٌ وقمر”، كما يُنسب له قوله : إن أجمل ما يصف موضع غصّةالعاشقين وصفا” تشريحيا” دقيقا”، بيتٌ كانت حباب جارية يزيد بن عبد الملك تتغنّى به كثيرا”، يقول البيت :
“بين التراقى واللهاة حرارةٌ لا تطمئنُّ ولا تسوغُ فتبردُ “
أيوا، غُصَة العاشقين، حفظكم المولى، غصة ولَهٍ يسافر من الوريد إلى الوريد ويلوب فى الشرايين متأرجحا” بين الشك واليقين.
الدنيا دى مافيها راحه..
ما يعنينى من هذا أن يعرف شبيبتنا أنه رغم سوء ما شهدوا فقد كان لنا رئيس يحدِد موضع غُصة العاشقين. رئيس، كما قال د. حسن أبشر، موسوعى تقعد معاهو يبسطك بحديث ماتع ويسلمك تقرير عن أحوال نفسك تقراهو بعدين فى بيتكم، تخرج من عنده فتعرف أن ال Ego الكذوب بتاعك إتهكَر وأنك مجرد بنطال وقميص فاضى ساى . قاتل الله الأنا فهى أس البلاء فينا.
كانوا ملمين بكافة ضروب المعرفه، ثقافة عيار ٢٤ ويحسدهم الماس على الشفافيه والألق والصلابه ، وظنى لو تحدث رئيسهم إلى الملكه عن ديكنز وشو وإليوت فلا خيار لجلالتها سوى الإصغاء والقبول، وحتما” لو حدثها عن اللون التركواز الذى تنجذب إليه لأبان لها فى يسر مدى خيانته للأخضر بإنحيازه السرى للأزرق أو تصنيفه كعميل مزدوج بينهما على أقل تقدير.
عندما تنادت جبهة الهيئات بتأجيل الإنتخابات رفض التجانى ذلك وأقنع الأحزاب بأن تقام فى موعدها، تأملوا !! أتته المناصب تجرجر أذيالها فأشاح عنها بوجهه قائلا لبتاعين السياسه ( خذوا دنياكم هذى فدنياواتنا كُثر ) إنها العين المليانه تبصر كزرقاء اليمامه، رحمه المولى لم يشهد عصر كنكشة الجاهلين.
كان ورفاقه يعملون بروح الفريق وحب الوطن، لايتوقفون لعرض مهاراتهم الفرديه العاليه فى اللعب ، بل يتداركوا أخطاء بعضهم فى كل محفل كما يفعل الظهير (القشَّاش الليبرو) ال Sweeper فى تلافى وتصحيح بلاوى الباكات ، ولعمرى السودان الآن أحوج ما يكون لمثل التجانى ورفاقه سيما فى زمن ظل دفاعه يعيد الكرة لمرمى الجماهير لولبية فى الزاويه البعيده فى الدقيقه 90 تاركا” شعبا” بحاله نهبا” للحسرات والزفرات وهو يستقبل العيد، أما قلت أننا شعب من مواليد برج الفاجعه..
قال محمود درويش :
أَسْلَمَنا الغزاةُ إلى أهالينا
فما كدنا نعضُّ الأرضَ حتى انقضَّ حامينا
على ( الأعراض ) والذكرى..
كانت الخرطوم قبلة لقادة العالم، ولم تكن قدلة إليزابيث هى الأولى من نوعها فقد تكرر المشهد لاحقا” عندما زارنا الفخم الضخم رئيس يوغسلافيا الكرواتى ود زغرب الشِفِت جوزيف بروز تيتو، فأحتشد لتحيته فى الأبيض عشرة آلاف من الأبَاله والفرسان وفيها إمتطى الجمل لأول مره فى حياته ولو مد إقامته فيها لأفتانا فى الحاشى والقعود.
زارنا،نكسون الأنيق، و كتب لى زميل فى سودانيز نقلا” عن صاحب الكرامات قوقل، أنه عند مغادرة نيكسون الخرطوم تعطل أحد محركات طائرته فأضطر للعودة فأصطحبه رئيس الوزراء عبدالله خليل لمنزله بإنتظار إصلاح محرك الطائره وقضى نكسون بعض الوقت وهو يعزف على بيانو السيد عبدالله خليل فى حين ذهبت زوجته إلى السوق لإقتناء بعض المصنوعات العاجيه . وربما غشيت ناس الطلح والشاف والبخور والدلكه وخلت نكسون عقله لِكّه فكانت الووترقيت.
بالله مش إنضربنا عين ما سمَت؟
صدق إبن الأبيض ود المكى :
إن خير الليالى مضت دون أن يطلع الفجر فيها .
وأن الأمانى إذ نشتهيها تعلقنا من سراويلنا فى الهواء ،
خرطوم اللاءات الثلاثه زارها نهرو وشو اين لاى وبرجنيف القطب النووى مرهوب الجانب والجناب، زعيم الدوما فى صينية الدومه ، مارا” بشارع الوادى فى سيارة مكشوفه حتى كاد يشرب الشاى باللبن المقنن مع كمال سينا والهادى الضلالى دون فحص مسبق من ذويقة ال KGB فى فريق بيريا الرهيب. تسابقت إلينا القوى العظمى حتى أصبح السودان محجا” وقبلة للعماليق، حليل الشيوعيين الماخمج ، بريجنيف دا بالذات تمنيت لو أنه مر بودنوباوى ليلا متفقدا” لحولية الشيخ قريب الله ، وهى على مرمى فرح من الدومه ، فإن فعل لترجم مع الصوفيه وتجاوز الماركسيه ولنُصِّب شيخ طريقه ليعود لموسكو موجها” البلاشفه بتغيير النشيد الوطنى إلى يا ليل أبقالى شاهد كترنيمه تُسعد فالنتينا تريشكوفا ولتزهر معها الكولخوزات ويدفأ قصر الشتاء بنار من يصدق أنه كان لنا مثل هذا التاريخ وهؤلاء العمالقة، الذين لا علاقة بينهم وبين اللاعبين اليوم على مسرحنا السياسي.