كتب الشاعر محيي الدين الفاتح مقالاً تداولته الأسافير والصحائف بعنوان (الاختلاق السطحي لقصص عن قصائد جماع) نسب فيه قصيدة أو أغنية (ألمني حنان) التي تغنى بها الفنان سيد خليفة للشاعر الكبير إدريس جمّاع.. في حين أن هذه القصيدة أو الأغنية ليست لها علاقة بإدريس جمّاع لا من قريب أو بعيد؛ وإنما هي من كلمات الشاعر عبد المنعم عبد الحي فتى الموردة الذي ولد في واو وترعرع في الموردة وعاش في مصر..! وعليه يكون كل ما كتبه الشاعر محي الدين عن إسقاط مسحة الحزن التي تنتشر في هذه القصيدة على حالة الشاعر جمّاع لا مكان له من الإعراب.. لأن من صوّر هذه المسحة الحزينة هو عبد المنعم عبد الحي وليس جمّاع (يوم قسموك يا هم..كتبوا عليك اسمي/ لو كان رووك بالدم.. يا هم رووك دمي/ أنا لو رضيت بالهم..ما برضى بي همي/ حبّاني يا أهلي.. يا من تعزوني/ في الدنيا خاب أملي.. في حظي عزّوني/ أنا لو يحين اجلي.. كما تبكوا هنوني/ لو السعادة تفوت.. لي الناس تخليني/ بين الحياة والموت.. يا سعادة زوريني/ لو أمروها بالجبروت.. السعادة ما بتجيني)..!!ومطلع القصيدة الأغنية هي (ألمني حنان) وتطعيمها بـ(أنا أنا ووووب أنا) من عنديات أبو السيد..! وهذه الأغنية واحدة من ثلاثة أغاني استهل بها عبد المنعم عبد الحي قصائده التي أهداها لسيد خليفة في القاهرة بعد (المامبو ده سوداني) والقصائد الثلاثة التي كان ميلادها في عام 1954 هي (يا بانة..وأبني عشك يا قماري.. وألمني حنان التي يعرفها الناس بـ(يوم قسموك يا هم)..!!
وعبد المنعم عبيد الحي من اخطر شعراء الأغنية السودانية ولولا خشية المغالاة (الحميدة) لقلنا انه مسؤول وحده عما لا يقل عن ربع من ثلاثة أرباع أغاني المدرسة الوترية الحديثة لو جاز وزنها بالأرباع والكم.. وذلك في استهلال انطلاقتها التأسيسية على حناجر الكاشف واحمد المصطفى وحسن عطية وعثمان الشفيع والتاج مصطفى وعثمان حسين والفلاتية ثم أبو داؤود وسيد خليفة..! وقد كان وجود عبد المنعم عبد الحي في القاهرة محطة عجيبة خرجت عنها عشرات الأغنيات الخالدة الشهيرة.. وله في حياته مصادفات غريبة جعلته يعيش صباه المبكر في أم درمان يسمع من فراش نومه أصوات سرور وكرومة والأمين برهان وإبراهيم عبد الجليل.. ثم يذهب إلى مصر ويجد في منزل أخيه إدريس في (كوم امبو) سرور وكرومة وهما يوقعان أغانيهما استعداداً لتسجيلها في الاسطوانات.. ثم يُفاجأ بأن أخيه إدريس يأتي بسرور ليغني لعبد المنعم عبد الحي الضابط في حفل تخرّجه من الكلية الحربية المصرية..! ثم تتدفق قصائد عبد المنعم لاحقاً لمطربي السودان الكبار الذين جعلوا من داره (محطة نووية) لانطلاق الأغنيات العجيبة فتجد على سبيل المثال: وين يا اسمر وفراق حبي المولع ناري للكاشف، وفتنني وفارق لا تلم لأحمد المصطفى، ويا نسيماً عبّ من كأس الصبا وبالله يا أهل الهوى ولوّموه اللاهي وأخواتها (أبو داؤود) وأنساني وأنا أنساك.. وداك الصباح أهو لاح يا حبيب لعثمان لشفيع، و”ناس لا لا” وليالي المصيف وندامى الراح لعثمان حسين، ورملتنا بيضا وظهر نور الشروق في الكون مع عشرات الأغنيات لحسن عطية (ظهر نور الشروق في الكون بين يا قمر.. عيونك ناعسه ليه وعيون أضناها السهر)..ويا روحي سلام عليك لعبيد الطيب، ويا سهارى تعلوا شوفوا البي لمحمد حسنين (أبو سريع) وهبت نسايم الليل لعبد الدافع عثمان..الخ وهذه نماذج خاطفة لأغانٍ ليس من الممكن حصرها بيسر وسهولة..! أما أغانيه لدي سيد خليفة فـ(عييييييك).. دعك من (أنا أم درمان تأمل في نجوعي..أنا السودان تمثل في ربوعي) التي كان يتمثّل بها الشهيد محمود محمد طه وظل يردد مقطعاً منها في نبوءة عجيبة (ويا سودان إذ ما النفس هانت..أقدّم للفدا روحي بنفسي).. وكان من رابع المستحيلات أن تتزلزل أقدامه من عتبات المقصلة..(وقد كان فوتُ الموت سهلاً فردَّه..إليه الحِفاظ المُرُّ والخُلقُ الوَعرُ/ فأثبت في مستنقع الموت رِجله ..وقال لها من تحت أخمُصِك الحشرُ)…!
murtadamore@yahoo.com