Khalidewais2012@gmail.com
(1)
كان الآلاف يترقبون مجيئه من البوابات الشرقية لمسجد الهجرة “الإمام عبدالرحمن المهدي” في ودنوباوي، حين دلف خلسة من باب خلفي صغير تحاشيا للفت الأنظار. لكن المسجد كله هاج وماج بالتكبير والحمد. كان الأمير عبد الرحمن نقدالله خارجا لتوه من اعتقال طويل حُكم عليه خلاله بالإعدام. كان ذلك في 1996. وكانت تلك الحادثة أولّ عهدي برجل سيقدر له، لاحقا، أن يسهم بشكل حاسم في تشكيل وعيِّ الثوري، ورؤيتي لكيان الوطن، وانغماسي في الشأن العام أكثر فأكثر. ولستُ الوحيد، فمصطلح “أولاد نقدالله” أصبح دالةً على شباب وشابات ذلك الجيل، ومؤشرا على جماع قيّم تعود لرجل لم يهبه الله بسطة في الجسم، لكنه نفحه بروح مشبّعة بـ “الإشراق”، وعقل متوّقد، وقلب نُحت من الشجاعة والإقدام.
كان مجيئه ذاك خلسة لئلا يلفت الأنظار ويستمطر الهتاف جزءا من شخصيته شديدة الفرادة. ذلك هو نقدالله: كثير الأفعال، قليل الكلام، وفي كلِّ يلازمه إحساس بأنه لم يفعل شيئا ذا بال.
(2)
هاتفني محمد فول، في وقت مبكّر، صباح الجمعة. الأمير نقل إلى المشفى. هرعت إلى مشفى علياء. خرجت مساءً، ولم أبلغ مقصدي حتى هاتفني أحمد نقدالله مبلغا إياي بأن “يابا حالته ليست بخير”. عُدت إلى المشفى لأشهد الدقائق الأخيرة في حياة اختصرت آلاف الحيوات، وأثّرت وأثرت، وغادرت الدنيا بسمعة لا تشوبها شائبة، وثياب لم تعلق بها الأدران أبدا. وحين كان الجسد مسجى، كانت بنيّته صفية تهتف بي وأنا أكفكف دموعي: “أبوي ما ببكوا عليهو.. أبوي عاش بطل ومات بطل” !
نعم يا صفيّة، والدك، والدنا جميعا، عاش كما ينبغي أن يُعاش. لم يركع لغير خالقه، حتى وهم يضعون السيف على عنقه. حتى وهم يعذبونه عذابا يفوق الوصف. والدك – يا صفيّة – كان استثنائيا في كل شئ. لم يعبر الحياة على هامشها، ولا ارتضى لشعبه أن يرسف في الأغلال. فضّل أن يمضي إلى الموت بجسارة خرافية على أن يصمت لحظة على الظلم.
3)
وما بين مولده ورحيله، بالمقدور تلخيص حياة الأمير في كلمة واحدة أحاطت مسيرته كلها: “اليقين” ! اليقين بالانتصار للحرية والكرامة. اليقين بالشعب السوداني. اليقين قبل ذلك كله بالله. يقينٌ دفعه إلى “سباق المسافات الطويلة” مع سجانيه، أي طرف سيقدر على كسر الآخر. وبيقينه ذاك لم يكسر سجانيه فحسب، وإنما أضحى مخيفا جدا لهم.
بسخريته اللاذعة تلك، كان يشير لي فتحي مادبو وشخصي، ونحن جلوس على الأرض، نتناول إفطار رمضان، أمام صالونه، كان يشير إلى مدخل بيته – دون باب – قائلا إن ضباط الأمن كانوا يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى حين يأتون لاعتقاله، خوفا منه. ذلك الجسد النحيل الضئيل كان يخبئ قلب أسد حقيقي، وكان يعي تماما أنهم يخشونه، ويسخر منهم ومن خوفهم منه.
اليقين هو سر نقدالله الأكبر، جنبا إلى جانب العشق. فهو العاشق الكبير الذي يماثل المتصوفة في تفانيهم وحبهم. نقدالله عاشق عظيم للوطن. ولئن رأيت الوطن بعيني نقدالله لأبصرت صرحا مختلفا. العاشق الكبير كان مؤمنا أشدّ الإيمان بعظمة هذا الوطن وشعبه، ولم يأل جهدا في مطابقة حياته كلها بما يستحق هذه العظمة.
(4)
حدثني من أثق فيهم أن رجلا “ملثما”على سيارة مكشوفة كان مواظبا على إحضار طعام العشاء والسحور لطلاب خلاوى الإمام عبدالرحمن المهدي كل ليلة. كمن له بعض الأنصار ليعرفوه، ولم يكن سوى نقدالله، محاذرا أن يتعرّف إليه أحد.
ويعرف القريبون منه أنه كان يعتكف لأيام لا أنيس له سوى القرآن، ولا زاد سوى التمر والماء وبضع لقيمات.
حين رُشح لشغل منصب الأمين العام لحزب الأمة القومي، عرض عليه خلصاؤه أن يتوجه لمقر المجتمعين، فأبى بتعفف نادر مشددا أنه لا يعرض نفسه على الناس ليؤثر عليهم. وبقي في بيته لا يبذل جهدا من أجل ذلك.
وفضلا عن هذا، فالدار مفتوحة طوال الوقت. حتى ما من باب يغلق ولا نار تُطفأ. تقرأ كل ذلك وتسمع وكأنك تقرأ عن “أسطورة” حقيقية تمشي بين الناس. رجل أسطورة وأسرة أسطورية تفعل ما لا يُفعل في هذا الزمن. لكنه كان “زمن نقدالله”. الزمن المنثال كماء رقراق من أسلافه، كرما وشجاعة وبسالة وسودانية صميمة مشوبة بإيمان لا يتسلل له شك بعراقة الشعب وطيب معدنه وفرادة الوطن.
(5)
لئن غلب طابع الرغبة في الحصول على “أثمان” للمواقف، على قسم مقدر من الساسة السودانيين على مرّ التاريخ، فإن نقد الله كان “نسيج وحده” في هذا الأمر. السياسة بالنسبة له كانت “مغرما” لا “مغنما”. يبلغ حدود الموت بحدّ السيف نضالا وجهادا ثم لا يرجو من وراء ذلك جزاءً بمنصب ولا شكورا بتطلعات يستحقها عن جدارة.
وطوال مسيرته عُرف بالنزاهة والصدق والتفاني والوضوح. لا يخشى في الله والوطن لومة لائم، ولا يقترن اسمه بالمساومات والتنازلات، بل بالأفعال الجليلة والمواقف العظيمة فحسب.
(6)
ولئن كان شأن الإصلاح الحزبي لدى البعض “قميص عثمان الذي به يتاجرون” في سياق التدافع السياسي والكسب والتنافس، كان بالنسبة لنقد الله موقفا مبدئيا ورؤية متكاملة للتطوير والتحديث دون أي مردود شخصي.
لم يكن الإصلاح شعارا فضفاضا يطرحه نقد الله ليحصل على ثمن، أو ليساوم به بحثا عن أفضلية. كان مراجعات كاملة “ناقدة” وعقلانية ترمي إلى وضع حزب الأمة القومي على سكة جديدة.
(7)
الناس، ولا سيما من يشتغل منهم بالسياسة والشأن العام، ينقسمون بطبيعة الحال حول السياسيين ما خلا نقدالله. فهو كان محلّ إجماع من مختلف المشارب الفكرية والسياسية ما عدا طرف وحيد ناصبه الخصومة الفكرية والسياسية وناصبهم الأمر ذاته، هم الإسلاميون. نقد الله، وببصيرة من حديد تيّقن باكرا جدا من مراوغتهم وأكاذيبهم، ثم حين وقع انقلابهم على الحكم الديمقراطي، وكان قبل ذلك معارضا مشاركتهم في الحكومة الائتلافية، تبدت له عيانا بيانا جرائمهم الوحشية وعسفهم وجورهم، فكان خصمهم منذ اليوم الأول، وإلى حين سقوطه مريضا جراء تعذيبهم له على مدى سنوات.
(8)
نقد الله جمع في قلبه تناقضا هائلا بين قوته في الحق، وجسارته وجرأته وشجاعته منقطعة النظير لدرجة إخافة المجرمين، وبين حنوّه ومحبته للأقربين والأنصار والوطنيين والشعب السوداني الكريم. قلبٌ احتوى صلابة غير عادية من جانب، كأنه قُد من صخر، ومن جانب آخر كان كأنه قلب طفل، قُد من ورد.
(9)
التقشف الذي لازم نقد الله طوال حياته، هو ضمن مآثر اختص بها الأمير. والده، الأمير الأب، عبدالله نقدالله، أصرّ على لبس “الدمورية” سنوات عددا لمناهضة أقمشة المستعمر ومنتجاته، سيرا ربما على درب المعلّم الهندي العظيم، مهاتما غاندي، أو، ربما، لكيلا يكون المناضلون السودانيون في سبيل التحرر أقل مبدئية من نظرائهم الهنود آنذاك. ومن هذه السيرة الناصعة، استمد نقدالله الابن مأثرة التقشف. بيت متواضع يحيطه الحب، وتظلله “الأسطرة”، وفي هذا البيت تهبط عليك سكينة عجيبة تتسلل إلى أصغر ذرات كيانك، ولو كان الخارج محتشدا بقوى الظلام التي تنتظر خروجك لأخذك إلى بيوت الأشباح. بيت تستمد منه طاقة غريبة للمضي قدما في طريق ليس فيه سوى النار.
(10)
كنت في العاصمة السعودية حين هاتفني ابن خالتي الطبيب النابه، مروان بابكر، من مركز القلب في الخرطوم، ليبلغني بنقل الأمير إليهم في المركز – في 2003 -. بعدها نُقل الأمير إلى الرياض. وطوال أشهر قضاها في المستشفى العسكري، شهدت عن قرب تفاني السيدتين الكريمتين شقيقته سارة وزوجته هدى في تعهده برعاية تجلّ عن الوصف وتدل على محبة فائقة له، رعاية قدر الله أن تمتد لثماني عشرة سنة قضاها الأمير صابرا محتسبا راضيا بما قسم الله. رعاية امتدت بمحبة بالغة لتشمل بنتيه وأبناءه الأكرمين الذين يشبهونه فعلا في صفاته وسمته، رعاية أحاطتهم حتى شبوا عن الطوق، وباتوا أمراء على درب آبائهم، أمراء بصفاتهم ونبلهم وشجاعتهم، هم وأعمامهم وأبناء عمومتهم وخؤولتهم.
(11)
لم ينس المجرمون طبعا الأمير حتى وهو في رقاده الطويل، فالبيت كان هدفا لقنابل الغاز خلال كل المواجهات في ودنوباوي التي جرت بين الثائرين وقوى أمن البشير منذ 2013 وحتى سقوط النظام. كان نقدالله وهو طريح الفراش قادرا على المشاركة – من خلال استنشاق الدخان – في ثورة كان هو أحد صنّاعها الكبار منذ 30 يونيو 1989.
(12)
قُدر لنا أن نعيش “زمن نقد الله”. قُدر لنا أن نعرفه عن قرب ونتأثر به. قُدر لنا أن نمشي في ظلال “الأسطورة” وأن نتمثل بعض صفاتها، على الأقل في المقاومة السلمية لعهد الطغيان. وقُدر لنا أن نمشي في جنازته، ونحفر قبره لنضع فيه جزءاً من أرواحنا المحبة له، جزءا من أحلامنا معه، جزءا حميما من ذاكرتنا وتاريخنا، جزءا من لحمنا الحي وقلوبنا، نحن “أولادك يا نقد الله”.
(13)
غاب الأمير الذي نحب، ولم تغب روحه الوثّابة فينا، ولا المبادئ التي غرسها في “أولاد نقد الله”، ولا القيم التي نثرها كالدر على جيد وطنه، ولا السيرة التي ما أن تُفتح تقترن بالصرامة التامة تجاه الوطن وكرامته وحريته، والعطاء اللا محدود، والقلب الكبير الذي يشيع الاطمئنان ويتدثر بالمحبة و”الإشراق” الصوفي، والنبل في أسمى معانيه.