قرار تسليم المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور ينضاف إلى سلسلة قرارات تسعى من خلالها الحكومة في السودان لإظهار التزامها بأهداف ثورة ديسمبر، لاسيما في ظل غضب شعبي متزايد على أدائها وباقي مكونات السلطة.
الخرطوم- لا تخلو خطوة الحكومة السودانية، بإعلانها تسليم المتهمين بارتكاب جرائم حرب في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، من خلفيات سياسية في ظل غضب شعبي متصاعد جراء تخبط سياساتها لمعالجة الأوضاع المتردية في الولايات وعدم قدرتها على إنزال بنود اتفاق السلام على الأرض بعد مرور تسعة أشهر من التوقيع عليه.
وقالت وزيرة الحكم الاتحادي بثينة آدم دينار، مساء السبت، في ختام اجتماع مغلق للحكومة استمر ثلاثة أيام متواصلة، إن “مجلس الوزراء قرر تسليم المطلوبين المتهمين بارتكاب جرائم حرب في دارفور إلى المحكمة الجنائية”.
وتحاول الحكومة من خلال قرارات عديدة صدرت عنها أخيراً، ومن بينها قرار تسليم المتهمين إلى المحكمة الجنائية، إظهار انحيازها للشارع غير عابئة بعلاقتها مع المكون العسكري.
عمر محمد علي: تسليم المتهمين سيواجه العديد من الصعوبات في التنفيذ
لم تحدد المسؤولة السودانية موعدا لتسليم هؤلاء المتهمين فعليا إلى المحكمة ولم تتطرق صراحة إلى تسليم الرئيس السابق عمر البشير أيضا، لكن المتابعين يرون أن حديثها يشمل البشير، وربما يأتي تسليمه في مرحلة لاحقة.
وأدركت الحكومة الانتقالية أنها لا يمكن أن تتجاوز الرغبة الشعبية الجارفة في تسليم المتهمين إلى الجنائية الدولية كدليل دامغ على عدم التواطؤ مع النظام السابق.
وكانت زيارة المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية فاتو بنسودا إلى إقليم دارفور شهر مايو الماضي والتجاوب الشعبي الواسع معها مؤشراً على أن هناك حاجة إلى اتخاذ خطوة متقدمة لتهدئة الغضب العارم في ولايات دارفور.
وجاء قرار الحكومة ضمن أكثر من 40 بنداً حددتها للعمل عليها في محاور مختلفة تتعلق بالاقتصاد والعدالة والسلام والمحور الأمني والعسكري والعلاقات الخارجية، تماشياً مع حراك الشارع ووأد احتجاجات دعت إليها قوى سياسية الأربعاء المقبل، تزامناً مع ذكرى انقلاب البشير على السلطة المدنية في 30 يونيو 1989.
ويأتي على رأس المطلوبين للجنائية الدولية الرئيس السابق عمر البشير، وأحمد محمد هارون والي شمال كردفان السابق، وعبدالرحيم محمد حسين وزير الدفاع السابق، وعبدالله بندة أحد قادة المتمردين في دارفور.
وقال أستاذ العلوم السياسية في جامعة الخرطوم، عمر محمد علي، إن “تسليم المتهمين التزام قطعته الحكومة على نفسها في اتفاق السلام، بجانب تعرضها لضغوط دولية مؤخراً دفعتها إلى الإعلان عن تلك الخطوة عقب زيارة بنسودا لدارفور، وأضحى التعامل مع تلك المسألة من محددات انفتاح السودان على المجتمع الدولي”.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “القرار يستهدف مخاطبة المجتمع الدولي بأن هناك جدية لتسليم المتهمين، وهي رسالة للداخل تفيد بأنها ماضية في تحقيق أهداف وشعارات ثورة ديسمبر، لكن القرار سيواجه صعوبات عدة في التنفيذ نتيجة عدم التوافق عليه بين كافة المكونات المشاركة في السلطة الانتقالية”.
ويرى مراقبون أن اتخاذ القرار من جانب الحكومة المدنية يبرهن على أنها تضع المكون العسكري أمام الأمر الواقع، في ظل الاتهامات المتصاعدة الموجهة إلى بعض قياداته بعرقلتهم لتلك الخطوة ومخاوفهم من أن يكون ذلك سببا في تقديم قيادات موجودة داخل المؤسسة العسكرية أو قوات الدعم السريع للمحاكمة ذاتها.
نصرالدين يوسف: بعض القوى المشاركة في السلطة تتلكأ في تنفيذ الالتزام
وكانت هذه النقطة دافعاً لتأكيد وزيرة الحكم الاتحادي على أن “التسليم سوف يستغرق وقتاً” لوجود إجراءات طويلة يتطلبها، جزء منها متعلق بالدولة كون المتهمين يحاكمون حاليا على ذمة قضايا أخرى لها علاقة بالفساد وانقلاب 1989.
ويرى خبراء القانون في السودان أن محاكمة المتهمين أمام محاكم مختصة في الداخل لا تمنع تسليمهم للمحكمة الجنائية، وليس هناك صعوبة قانونية، ويمكن التنسيق بين القضاء المحلي والمحكمة الجنائية لتسليمهم ثم إعادتهم مرة أخرى لاستكمال المحاكمات.
وهناك متهمون لم تبدأ عملية محاكمتهم أصلا، ومازالوا على ذمة عدد من القضايا ومن الممكن أن يُحاكموا دولياً ثم تستكمل إجراءات التقاضي الخاصة بهم في الداخل.
وأوضح عضو هيئة محامي دارفور نصرالدين يوسف لـ”العرب”، أن “تسليم المتهمين للمحكمة الجنائية كان من المفترض أن يجري منذ الإطاحة بنظام البشير، ويرجع التلكؤ إلى عدم رغبة بعض القوى المشاركة في السلطة في تنفيذ هذا الالتزام”.
وأشار إلى أن القرار الحالي له خلفية اجتماعية ترتبط بالنازحين وأسر الضحايا، لأن انخراط مؤسسات الحكومة في إعادتهم إلى مناطقهم يتطلب تحقيق أبرز مطالبهم التي تتمثل في العدالة وتسليم المتهمين بارتكاب جرائم حرب بحقهم، وتوجه الحكومة يساعدها في الحفاظ على مكونات النسيج الاجتماعي في دارفور.
ولفت إلى أن القرار له بعد قانوني، فالانصياع للحجج الواهية التي تنادي بمحاكمتهم أمام القضاء الداخلي قد يؤدي إلى إفلاتهم من العقوبة؛ لأن القانون الجنائي في السودان، والذي جرى إدخال تعديلات عليه عام 2010 ليشمل محاكمة المتهمين في جرائم حرب، لن يسري على البشير وأعوانه، فقد ارتكبوا جرائمهم عام 2003 أي قبل إقراره، ولا توجد عقوبات بأثر رجعي في القانون السوداني.
ويقتضي التقارب الحالي بين الحكومة المدنية والجبهة الثورية، التي تضم في عضويتها حركات مسلحة وتنظيمات سياسية، ترسيخه بقرار من هذا النوع، بعد أن أدرك الطرفان أن وضع جميع الغلال في كفة المكون العسكري لن يفيدهما، في ظل ارتفاع موجات الغضب الداخلي ووجود رغبة دولية في أن تكون السلطة في السودان مدنية خالصة.
الحكومة الانتقالية أدركت أنها لا يمكن أن تتجاوز الرغبة الشعبية الجارفة في تسليم المتهمين إلى الجنائية الدولية كدليل دامغ على عدم التواطؤ مع النظام السابق
وعقد المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية وحزب الأمة القومي قبل أيام اجتماعا طارئاً، اتفقوا فيه على تشكيل مركز قيادي موحد
يمثل جميع أطراف قوى الحرية والتغيير، كضامن لوحدة قوى الثورة ومحصّن للمرحلة الانتقالية. ولفت نصرالدين يوسف إلى أن قرار تسليم المطلوبين قد يكون من خلال تشكيل محكمة مشتركة داخلية أو ما يطلق عليه اسم “المحكمة الهجين” وتتشكل من القضاء المحلي والمحكمة الجنائية، كمخرج مناسب واستجابة لمطالب أطراف في السلطة.
ويرى متابعون أن خطوة تشكيل محكمة هجينة تمثل خطراً على السودان في ظل عدم القدرة على تأمين محاكمات من هذا النوع مع وجود اختراقات عدة للأجهزة الأمنية من قبل فلول نظام البشير.
نقلا عن صحيفة ” العرب” اللندنية