إشاعة الضجيج السياسي، وزيادة مظاهر الفوضى، التي تسبق مسيرة الثلاثين من يونيو، وهتافات حفنة من أفراد الشرطة، ونهر الشائعات الدافق الذي يغمر الميديا الحديثة، ليست سوى مجرد إرهاصات لاختبار الثورة السودانية، ومعرفة نقاط ضعفها لاختطافها. كل هذه التحديات جربت على الشعب بعد ثورته ولكن خاب سعيها.
فقد ظل المرء واثقاً أن السودانيين سيخرجون بعد التحرر من رماد الواقع مثل طائر الفينيق. ومثلما فاجأوا العالم بثورتهم التي شبهت بالثورة الفرنسية فنحن جديرون بتسوية خلافاتنا بعد ضرب مواقع الخراب النظري، والعملي. ولاحظنا منذ ثورة اكتوبر أنه مهما حاول شعبنا خلق تسوية لمشاكله التاريخية تكاتفت جيوب المصالح بعون خارجي حتى لا تتحق النهضة السودانية التي تعني تقدم بلادنا، واستقلالها، واستقرارها. ومع ذلك ظلت روح شعبنا وثابة لتخطي الصعاب نحو الوحدة والتقدم بكثير من المثابرة النضالية لمدى اكثر من نصف قرن.
لا أحد يستطيع أن يملي على شعبنا خطاً استبدادياً للسير، والانغلاق، فيه للأبد. قد ينجحون لسنوات. ولكن ينتصر الشعب في خاتم المطاف. السودانيون قاوموا التركية، والإنجليز، والحكم الثنائي، والحكومات الديكتاتورية، ومهروا دماءهم الغالية للحرية بإباء، وشمم، وجسارة. والدول الطامعة، ومخابراتها، جربت منذ الاستقلال، ونشطت في الثلاثين عاما الماضية لاستغلال همجية النظام السابق، وتحاول الآن بكثافة. ولكنها ستحصد الحصرم. لا ترويكا نفعت في ضغطها على الأطراف لحملها على ما سمي “الحل الشامل”. ولا مراكز البحوث الأجنبية التي تضم الجهلاء بروح شعبنا أفلحت في أن تفرض صحة قراءاتها المبتسرة، مثل ما فعل أليكس دوال، ومحمود ممداني. وهؤلاء خانوا أمانة العلم مثلما خانها انثروبولوجيو الاستشراق الذين وظفوا معارفهم لخدمات إمبريالية توسعية على حساب الشعوب الأخرى. اطمئنوا، ولا تحبطوا بضخ المعلومات الكاذبة.
الشعب هو الذي سيقرر مصيره. فشباب الثورة هزموا ما تسمى وصفات الدراسات الإستراتيجية العالمية لحل المشكل السوداني، وخيبوا ظن خبرائنا المحليين الذي قالوا بمصالحة البشير، أو منافسته في الانتخابات. وهذا الشباب حارس لبوابة الثورة، ولا خوف في أنهم سينتصرون مهما خذلهم السياسيون الكبار.
هناك جانب إيجابي لهتافات بعض أفراد الشرطة في وجه وزير الداخلية. فهي قد أبانت أهمية تنظيف الخدمة المدنية، ولا نفع من وضع حسن النية في كوادر الدولة العميقة التي أسسها الإخوان. والآن ننتظر لنرى كيف يتصرف المسؤولون بعد أن شاهدوا بأم أعينهم انفراط هذا الانضباط، والذي لم يرق ليكون تمردا كما حاول إعلاميون وصفه بالتمرد ليشيعوا أهدافهم.
قيام مسيرة الثلاثين من يونيو أيضاً لها إيجابيات عظيمة. فهي تؤكد ديموقراطية الممارسة والحرية، وحق الناس في التظاهر من صميم الحريات اتفقنا معهم في الشعارات التي يحملونها، أو اختلفنا. ومن ناحية أخرى فالمسيرة ستكون عنصر ضغط مطلوب تجاه المسؤولين، وتذكيرهم بضرورة إنجاز شعارات الثورة دون تهاون، أو مراوغة، أو تقاعس. ومن ناحية ثالثة تؤكده مسيرة الثلاثين من يونيو أن الشارع الثوري مهما انقسم فإنه حي، ويقظ، ولن ينطفيء وهجه. والأمر الرابع أن المسيرة ستوضح لنا إذا كان من الممكن أن تنتصر تحركات الفلول الذين هددوا بأنهم سيخرجون للشارع تحديا للحكومة التي حلت حزبهم. وفوق كل هذا تأتي مسيرة الثلاثين من يونيو لتوجه رسالة للمحيطين الإقليمي، والدولي، ومخابراتهم، بأن الشعب السوداني يقظ، ولن يرضى بالتدخل في شؤونه ليوجه نحو مسار محدد. ذلك مهما تشترت مواقفنا الخارجية نتيجة لتدخل المكون العسكري في عقد صفقات خارجية في ظل ضعف وزارة المكون المدني المعنية وحدها بالشأن الدبلوماسي.
ان إشاعات الفلول المحمومة أيضاً إيجابية – في جانب – لأنها ترينا إفلاس كوادر الحركة الإسلامية، وعجزها عن تقديم خطاب معارض موضوعي يحرض الشعب، ويستنصر به لو أنهم يحتكمون إليه ليساعدهم في إسقاط الفترة الانتقالية. ولذلك اطمئنوا جميعا، ويجب ألا تتأثروا بالرأي العام السالب المستهدف للثورة. فليتظاهر الناس سلميا مطمئنين معبرين عن حريتهم. وليواصل الثوار نقدهم لحكومتهم حتى تعالج إخفاقاتها. وليعبروا عن رفض تغولات العسكر حتى يؤوبوا إلى ثكناتهم.