دعوة الإبقاء علي حكومة حمدوك لا تعني الرضا بسلحفائية قراراتها وتحصينها من النقد . لنتذكر : حكومة حمدوك ليست حكومة إجماع سوداني وإنما مخاض عسير أفضي لميلاد كيان إنتقالي جراحيا في أغسطس 2019 وكان إسم القابلة يومها ضرورات “أحسن الأسوأ”من خيارات . فالاتفاقات التي تمت في الساعة الخامسة والعشرين آنذاك ، أخذت في الاعتبار الإنهيار المتسارع لنظام البشير وإنكشاف بلادنا التام أمام مكائد المحاور التي رهن البشير سياستنا الخارجية عندها ، وسيناريوهات المخابرات والمطامع الاقليمية لثمانية أشهر متصلة . الحقيقة الأهم هي أننا لسنا في حكم ديموقراطي الان ، وان من يحكمنا اليوم ليسوا بمن انتخبناهم لتمثيلنا في الحقائب التنفيذية والتشريعية ، لكننا حتما في الطريق الي ذلك الحكم المدني الذي إرتضيناه . الإنتقال من ديكتاتورية عقائدية قاهرة الي ديموقراطية هشة القواعد ، يساوي صفرا مسنودا بصفرين فمثل ذلك الحكم تتساوي قدراته المنعدمة وأحلامه الشاطحة في التحليق ، لذا فإن مصيره الفشل في كليهما ! فإذا لم تأتمر أجهزة الامن والاستخبارات بأمر الثورة ، وإذا لم تتسلم الحكومة المدنية ” دبابيس ” الدبابات ، وتتمكن من جَرَد مفاتيح مخازن الأسلحة ، واذا لم تسرِّح سدنة النظام القديم ، وتقتص من المذنبين ، فان كفاءة أجنحة هذه الحكومة المدنية تشابه عصفورا بلا ريش ! غض النظر عن حجم الوزن الجماهيري ، والتأريخ النضالي ، والمقاصد النبيلة لمن يخرجون اليوم يطالبون بإسقاط حكومة حمدوك ، يجب ان يعلموا أنهم يصطفون ، كعبا بكعب وكتفا بكتف ، مع أعداء لنا لهم !
نعم ، لن يكون ممكنا إنكار التأريخ النضالي المجيد لمن يرفعون شعار اسقاط حكومة حمدوك . بيد انه ، وبذات القدر ، سوف لن يكون ممكنا أن نتغاضي عن تزويدهم للفلول بصناديق مجانية من الذخيرة للنيل من حكومة قمنا ، نحن وهم ، بإقامتها بعد ان أسقطنا أعتي ديكتاتورية وانهينا السياق السياسي لنظام الكيزان بأعظم ثورة سلمية في هذه الألفية ؟ التحالف الذي نشهده ما بين حلفائنا وأعدائنا ، سيكون عصِيّا القبول به حتي لو تعلق الامر برواية خيالية ، فهو شطط حتي بمقاييس اللامعقول السياسي ولا يتسق مع بديهيات الأشياء وكيف لخندق أن يتسع جوفه ليجمع النقيض المتنافر في القيم والفلسفة والطهر والعُهر . لكنا ، وللأسف ، لا نتحدث عن إجتهادات إفتراضية ولا عن روايات وفذلكات خيالية وانما نتحدث عن واقع ومشهد ماثل امامنا اليوم هو نتيجة أسابيع طويلة من التحشيد والاستنفار للقواعد للخروج لإسقاط الحكومة المدنية ! فالمشهد الذي امامنا تتماهي فيه مصالح “جزء عزيز ” منا تقوم عليه قواعد الكتلة الثورية، مع تلك الخبائث الكيزانية المتربصة بالثورة . وبالنتيجة نشهد تمازج فريد بين حابل ونابل وكيف ان النهايات الاستراتيجية “لأصدقائنا وحلفائنا ” ترقد متلاصقة مع مخططات الأعداء ، وعلي ذات السرير ! لن يماثل هذا المشهد المؤذي والمؤلم إلا قبلة من فلاديمير لينين ( 1924-1870) علي جبين سيد قطب ( 1966 -1906) أو زواج ” أبو الاسلام السياسي” أبو الاعلي المودودي من أرملة لينين ، ناديزهادا كونستانتينوفنا كربسكايا Nadezhda Konstantinovna Krupskayaالخلاصة : من يريدون اسقاط ” حكومتنا ” ، يوفرون لأعداء الثورة الذخيرة التي سيحصدون بها شبابنا وينالون من ثورتنا لتطبيق مخطط ” يوم القيامة ” بقدح زناد حرب آهلية لاتبقي ولا تذر . ولن نسمح لهم بذلك . لذلك نقول وسنظل نقول :نعم للتظاهر السلمي . نعم لحق التعبير الواعي وفق تقييم متعمق للظروف الموضوعية الماثلة . فالكيزان ، الذين خبرناهم وعرفناهم ، هم حرباء السياسة السودانية بإمتياز . بل هم أهل التخصص في تخريجات فقه الضرورة ، ومقالب اذهب للقصر رئيسا وسأذهب للسجن حبيسا. نعرف انهم أساطين علوم التكتيك وتلامذة ميكافيللي في الانتهازية ونظريات الغاية تبرر الوسيلة . وفوق كل ذلك ، نقول بثقة مفعمة أنهم إن ظفروا بميلة علينا وتمكنوا من إعادة سيناريو فوضي (ثورة المصاحف) وأسقطوا ثورتنا فسوف يستهلون عهدا دفترداريا غير مسبوق في دمويته وشموله . يومها لن تفرق مشانقهم ما بين من خرج اليوم مساندا حكومة حمدوك ، مستبشرا بالعودة الي حضن الاسرة الدولية ، أو معارضا لها بسبب تدني محصولها في الانجاز أو التلكؤ في التنفيذ . وحتما لن يشفع لحلفائنا ما وفروه للكيزان من ذخيرة وخدمات تحشيد .
لا للمراهنة علي مجهول وفوضي .نعم للضغط لتغيير المسار وتذكير الحكومة بمطالب الشارع ،نعم لحرية التعبير والغضب المشروع ،نعم لأحلامنا المتقدة في الحرية وطمأنينة من الخوف والجوع ،نعم للإختلاف علي المرئيات والاستراتيجيات وبطء التنفيذ نعم للتذكير بالشهداء الابرار وضرورات القصاص ، نعم لفضح الفلول والزواحف والابتزاز نعم لمجانية التعليم ووفرة الطباشير والكَنَب والكُتب ، والشفخانات والموية والحقنة ..لا للتخريب ..لا للرجوع لهوس التدين الكاذب، وبيع الحور في صيوانات العزاء ، وحفلات الاستشهاد والفطائس وتوزيع أوهام مفاتيح الجنان مقابل الدم الحقيقي للابرياء من أهلنا في دارفور وكردفان والنيل الازرق وشرقنا الحبيب …لا لديكتاتورية اللصوص وبيت الاشباح المحروس . أيها الشعب العظيم …لتستمر الثورة نحو اهدافها التي رسمتها دماء الشهداء وطرزتها دموع الامهات وتتنفس برئة الجرحي . لا للتراجع ، لا للأمس نعم للغد وآمالنا الكبيرة في وطن نفاخر به . كل عام وثورتنا بخير ، كل عام وشعبنا كله ديدبان لا يتثاءب في حراسة مكتسباته .
عبدالرحمن الامين
واشنطن
aamin@journalist.com