من دون أقاليم السودان لدي محبة خاصة لشرقنا الحبيب. مع هلال طارق أحمد آدم زرت كسلا، والقضارف، عام ١٩٨٧، ثم زرت شتاءً بورتسودان لفاعلية ثقافية عام ١٩٩١ استمتعت فيها بصوت عادل مسلم، وفرقة السماكة التي بهرتني بسلمها السباعي. وكان هناك سلماويت تسفا، والفنان الإريتري المناضل إدريس محمد علي رد الله سجنه. في كل هذه الزيارات وجدت أن المزيج الاجتماعي لهذه المدن من جميع أنحاء السودان. ولا تحس أن إنسان الشرق سوى أقلية في مجال العمل، والاجتماع. وحتى وجدت لاعبي، ومشجعي، وإداريي الكرة غالبهم من بطون وأفخاذ السودان كله. هذا يعني شيئين، أو ثلاثة. فإنسان الشرق – الأرض هو إنسان السودان كما لو أن إنسان نيالا، وعطبرة، وامدرمان، ودنقلا، والمناقل، ومدني، هو خليط السودان أيضا. ومعنى ذلك أن الله جعل هذه المدن كشبه أمدرمان التي صهرت الأقوام، والشئ الآخر أن أهل الشرق ظلوا منذ القدم مضيافين يتقبلون الغريب حتى لو جاء من حضر موت، أو بوركينافاسو. شأنهم في ذلك شأن كل مناطق البلاد.
ولكن هذا الإنسان الطيب المسالم ظلم في محاصصة التنمية. ولأن حظه من التعليم ضئيل انظلم مرة أخرى في محاصصة الوظائف العامة حتى في أرضه. فالقليلون من أبناء الشرق وجدتهم في تلك الزيارات السريعة التي مضت عليها ثلاثة عقود، أو أكثر، يتسنمون شحيح الوظائف. ولذلك لمحهم الشاعر حميد في الميناء، وعبر عن ظلمهم. ولو كان لهؤلاء أي حلم لأداروا الميناء الذي يفيض بخيراته على البلاد بينما يوعدهم البشير بثلاث خطب نارية في أزمان متقطعة بأنه سيحل مشاكل المياه في هيا، وأربعات، وهمشكوريب، حتى في المرة الأخيرة. إذا لم يكن توفير الماء أولوية لمواطننا في هذا العصر فما معنى أن نثور؟.
الآن ندخل مباشرة في موضوع الناظر ترك بعد هذه المقدمة العاطفية المحبة للشرق. فالموضوع حساس لأن الناظر عقده بالجهوية، ولذلك تحتاج معالجته بعض حكمة من الحكومة، وخارجها. ولا ينبغي أن يؤججه المتطرفون بالتصعيد، وليس صحيحاً القول بتحريك دعم سريع لقمع الناظر كما نبس أحدهم.
إن الخيرين من أبناء السودان كثر، ولا يغلبهم تأجير حافلة بقيادة الرجل الحكيم مهدي أمين التوم للتوسط بينه والحكومة. ذلك حتى لا تتصاعد الأزمة، ويستمر الضجيج حولها. ولو حولنا ترك من خانة الغضب الذي يتطاير شرره من عيونه، وفصلناه إجرائياً من تحريضات يعمقها إخوان المركز، والشرق، إلى خانة الداعم للثورة نكون قد فعلنا خيراً، وبركة بإطفاء وميض النار.
وهكذا نوفر خيار عنف السلطة احتراماً لإنسان الشرق المهضومة حقوقه، والمهمش بانتظام، والذي لاذ به ترك الآن للدعم، والنصرة، والاحتماء. والملاحظ أننا نفتقد طبقة مثقفة فاعلة تخرج من وسط عشائر الشرق، وتستطيع أن تكون لها فاعلية أكبر من نظارة ترك، وبيتاي، ودقلل..في حين أن كل مناطق السودان تملك طبقات مثقفة تجاوزت العشائرية نسبيا، ونادت باسترداد حقوقها العادلة.
فموضوع ترك مرتبط بمخلفات النظام الذي خلق لنفسه ولاءات جهوية، وقبلية، تعينه في استبداد الأطراف. والآن استغل الناظر الإنقاذي حضوره القبلي ليجيش قاعدته بخطاب معادٍ للثورة مغطى بتظلمات جهوية. ولكنه غير صادق في مطالبه وإلا لكان حريصاً على حل مشكلة مياه الأرياف حينما كان نافذاً مع الإنقاذ. ووقتذاك قتلت السلطة نحو عشرين من شرفاء الشرق المناضلين في تظاهرة واحدة فلم يهدد بقطع الطريق.
وإدارة ترك قصرت دعمها للحكومات، وليس للحقيقة، مثل حال كل إداراتنا الأهلية في القطر. فهي كالحرباء تتلون مع كل نظام جاء إلى السلطة، كونها تعرف تماما أنها لو لم تفعل قفلوا البلف دونها، أتراكاً كانوا، أم مايويين، أو إخوان.
وبهذا المستوى من الانتهاز أهملت الدولة المركزية ريف سنكات، وجبيت، وطوكر، فلا يتلقى سوى القليل من فتات مال تنمية تبعثه لنخبة بورتسودان، وكسلا، والقضارف. وحين يرسل الريفيون أبناءهم إلى بورتسودان للرزق فلا يجدون أنفسهم سوى “كلات مواني”، أو مراكبية بحر مالح، وهنا يأتي استغلال غير المتعلمين، ويُزج بهم أمام عنف الدولة.
وهذا واقع مرير لا يرضاه الله، ورسوله، وكل من به ذرة من إنسانية. ولذا ينبغي الإحاطة بذيول أمر الناظر ترك عند معالجة القضايا المضفورة بالجهوية، والقبلية. فالحاجة مهمة لحساسية التناول في موضوعه الذي خلطه بالقبلية، ودعم الإخوان. فسلطة ترك الحالية غير معزولة عن مجمل الفشل التاريخي للنخب المركزية في خلق تنمية عمرانية للريف، وإنسانه.
صحيح أن ترك كما قلنا ورطته المركزية السودانية في أن يُجند للتنظيم الإسلاموي حتى يوالي الإنقاذ ليعظم مكانته ثم يخدم أهله بالقليل كما والته أحزاب، ونظارات أخرى. ولكن اعتقد أن احتواءه بحكمة مع تحقيق مطالب الشرق العاجلة أفضل من التهور تجاهه بتهديده بالدعم السريع، أو الجيش، لكون أنه نادى متطرفاً بحل لجنة التمكين، أو قفل الشريان المغذي للبلاد. فترك بنفسه لا يستطيع تقدم الناس لمنازلة الحكومة، وكل ما سيفعله أنه سيدفع بالناس المساكين لصالحه.
لا حاجة لنا لاستخدام العنف المركزي النوعي مطلقا بعد الثورة لغمط الاحتجاجات السلمية لترك، ومتى حاول ركوب الرأس فإنه لن يجد أحداً يتعاطف معه. الحاجة الآن للجلوس مع الناظر الإنقاذي، وإقناعه، بأن الحل السلمي أفضل، وألا يستهين بشوكة الدولة بتهديدها، وأن مصلحته أن يتقفى أثر المناطق التي طرحت مطالبها عبر الحوار القومي، وحازت على مكاسب. ومن مصلحة ترك، وعقلاء الشرق، ونحن المتعاطفين مع مظالم أهل الشرق، أن تتم الاستجابة للحوار مع السلطة لنحقق أيضا مكاسب هذا الإنسان المهضومة حقوقه بخصوصية مكوناته الإثنية، وعدالة مطالبه العاجلة.
الذين يريدون تأجيج المشكل بعنف سلطة الخرطوم بلا هدى، ولا روية، يمتنعون. على عقلاء البلاد التحرك بجدية لنزع فتيل الأزمة. والبلد لا تنقصها المشاكل.