بات معلوما ان من بهم بعض تقية أو حياء يمنعانهم من المجاهرة بمعارضتهم للتغيير الذي تنشده ثورة ديسمبر، باتوا يستهدفون لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد لأنها الكيان الوحيد الذي يستهدي بشعارات الثورة تماما، ويمارس مهامه كاملة غير منقوصة بموجب الصلاحيات التي تحددها له الوثيقة الدستورية، التي وعبر الثقوب التي فيها، تسللت بعض عناصر الثورة المضادة الى دهاليز السلطة ومراقيها العليا، وتحسب انها تستطيع تقويض الثورة من الداخل دون ان تثار حولها الشبهات
والذين يحسبون أنهم قادرون على النيل من “لجنة التفكيك” وصولا الى تفكيكها واهمون، بل يجعلون أنفسهم مواضع شبهات لأن المنطق يقول إن الحرامي على رأسه ريشة او بطحة، و”يكاد المريب ان يقول خذوني”، فالملاحظ ان من تصدوا للتشهير باللجنة بل واتهامها بالكوزنة، لا يوردون من اسمها سوى جزئية التفكيك، مع ان مهمتها وكمال اسمها هو محاربة الفساد، وجميع ما أنجزته اللجنة حتى اليوم يندرج تحت بند “اجتثاث الفساد”، فوجود أشخاص غير مؤهلين يشغلون وظائف إدارية عليا فساد إداري، ووجود كوادر تعطل دولاب العمل وعجلة الإنتاج وتعمل على خلق الأزمات والضوائق فساد أخلاقي وإداري، والسطو على المال العام والممتلكات العامة فساد مالي، فما الضير في رد الوظائف لمستحقيها، ورد المال الى بيت المال العام (وزارة المالية)؟ ألا يدرك من يطالبون بشل قدرات اللجنة او تعطيل نشاطها تماما انهم ينادون بالإبقاء على الفساد والمفسدين؟ الإجابة على هذا السؤال هي: نعم كل من يجاهر بمعاداة اللجنة ضالع في التستر على الفاسدين أو فاسد في نفسه مفسد لغيره
وباللجنة كوادر قانونية ومحاسبية ضليعة لا تعمل خبط عشواء، فرغم ان التمكين كان سياسة معلنة للنظام المباد، وكان تطبيقها بتسريح عشرات الآلاف من وظائفهم لإحلال أصحاب الولاء مكانهم، إلا ان اللجنة المناط بها تفكيك التمكين تعمل بهدي الوثيقة الدستورية التي تنص على “تفكيك بنية التمكين لنظام الثلاثين من يونيو 1989م وبناء دولة القانون والمؤسسات” بما يحقق نية المشرع في تفكيك النظام البائد، وكما أفاد قانونيون مرارا فإن المادة (6)(1) من قانون تفسير القوانين 1974م تقول “تفسر نصوص أي قانون بما يحقق الغرض الذي شُرع من أجله، بينما تفيد المادة (22) (1) من نفس القانون “اذا صدر بموجب احكام أي قانون حكم من اي محكمة او اي سلطة اخرى بمصادرة نقود او حيوان او اي شيء اخر، فما لم ينص على خلاف ذلك او ينص القانون صراحة على ان المصادرة لمصلحة شخص بذاته تكون المصادرة لمصلحة الحكومة”، والسلطة الأخرى هنا بنص القانون هي لجنة تفكيك التمكين التي تم تشكيلها وفقا لنص المادة (4) من قانون تفكيك نظام الانقاذ 2019م والتي تمارس صلاحياتها وسلطاتها الممنوحة لها بموجب المادة الخامسة من نفس القانون
يقول أهل القانون إن هناك نوعين من المصادرة: مصادرة قضائية وهي التي تصدر بموجب حكم او قرار من سلطة قضائية، ومصادرة غير قضائية تصدر من سلطة غير قضائية وفقاً لنص المادة (22) من قانون تفسير القوانين والنصوص العامة (1974م) والتي اشارت الي ان المصادرة يمكن تصدر من سلطة اخرى خلاف المحكمة، وهي هنا لجنة إزالة التمكين ومحاربة فساد أقطاب حكومة الكلبيتوكراسي (اللصوصية المرَضيّة)، ولا أملك من الأدوات ما يسمح لي بالدخول في فذلكة قانونية مطولة لإبانة ان اللجنة لا تعمل بنوعية العضلات التي استخدمتها دولة الكيزان طوال السنوات الثلاثين الكالحات لنهب أموال الشعب والتنكيل بالمواطنين، ويكفي لإخراس من يدارون معارضتهم لنشاط اللجنة بالمطالبة بان يكون جنس نشاطها عبر المحاكم، ان نقول إنه ما من لص تمت مصادرة أمواله السائلة او أملاكه الثابتة والمنقولة إلا وتم فتح بلاغ قضائي فيه، والنيابة العامة متخمة بتلك القضايا وتشكو من أن عديد كوادرها لا يكفي لفتح معظم الملفات التي أحيلت اليها لتحيلها بدورها الى القضاء
ولن يجافي الحقيقة من يقول إن من يدعو لشل نشاط اللجنة إما يخشى ان تطاله تحقيقاتها (كما ذلك الغوغائي في شرق البلاد الذي ولغ في إناء دولة الكيزان ويدرك ان أموال صندوق إعمار الشرق تخضع حاليا للتدقيق) وإما يريد او الستر او التستر على أسرة شخص قائد في “الحزب” إخوته موضع شبهات، أو كما وزير المالية الذي يحسب انه ورث حزب الكيزان ويريد تسويق نفسه لجماهيره استعدادا لانتخابات عامة، وسبقهم الى ذلك عسكر مجلس السيادة الذين سمحوا لكبار اللصوص بمغادرة البلاد خلال الفترة التي حسبوا فيها أن أمر الحكم آل إليهم دون من صنعوا “التغيير”، فكان ان سحبوا ممثلهم من رئاسة “لجنة التفكيك”، وكان حميدتي الأجهر صوتا في معاداة اللجنة وردد مرارا موال “استبدال التمكين بتمكين” وأحسب انه قد بلغه تساؤل الناس الجهير: وماذا عن التمكين العائلي في قوات الدعم السريع ومجلس شركاء الفترة الانتقالية؟
ولعل مواكب الثلاثين من يونيو الأخيرة تجعل خصوم الثورة في أروقة الحكم يدركون أن صناع الثورة ما زالوا قابضين على جمرها، وعلى استعداد لاستخدام الجمر لكيِّ من يحاولون النيل منها، وقد تكون حكومة حمدوك قد فقدت قسما من سندها الجماهيري، وقد يكون صحيحا ان كثيرين من الثوار الأصلاء سحبوا الثقة من قوى إعلان الحرية والتغيير، ولكن من المؤكد قطعا وحتما ان لجنة التفكيك تملأ عين الثوار وتثبت لهم أنها ماضية في تمهيد التربة للتغيير ليتم فيها غرس الديمقراطية، فلا تغيير دون “تشليع وتشليح” النظام الكابوس الذي نخر في البلاد كالسوس، وعلى من يحسب ان بالإمكان خلخلة اللجنة وصولا الى إزاحتها من المشهد تماما، أن يتحسس مقعده وقرونه ولا يكون ممن عناهم الشاعر الأعشى بقوله:
كناطح صخرة يوما ليوهنها / فلم يُضِرْها وأوهى قرنه الوعل