بسم الله الرحمن الرحيم
*
احتفل العالم في الخامس من يونيو المنصرم ( 5_6_ 2021) باليوم العالمي للبيئة تحت شعار ” استعادة التصور و الانشاء والبناء ” . كما سيؤرخ اليوم العالمي للبيئة لهذا العام لبداية عقد الامم المتحدة لاستعادة النظام البيئي ( 2021 _ 2030)؛ والذي يهدف الى استعادة واحياء مليارات الافدنة من الغطاء الغابوي والاراضي الزراعية، من اعالى الجبال الى أعماق البحر. وبلا شك تساهم هذه الافعال في انهاء الفقر ومكافحة تغير المناخ ومنع الانقراض الجماعى للكائنات النادرة وذات الجدوى الاقتصادية الكبيرة.
نتناول في هذه المقالة من جزيئين ورقة كتبت في شكل كبسولة تحمل نفس المعاني وتهتم بنفس القضايا ذات الوزن الاعتباري العالمي ومن منظور محلي يركز على وضع ومعالجات القضايا البيئية في السودان. الجزء الاول يستعرض الورقة تقريريا ، والجزء الثاني يستقرئ الورقة تحليليا.
متابعة لانشطته التنويرية والتثفيفية الرائدة ، دشن المكتب الخاص للامام الباقي الراحل الصادق المهدي، ثلاثة اصدارات في عيده ميلاده الموافق 25 ديسمبر من العام المنصرم. كما جاء في التقديم، درج الامام الصادق المهدي وبرافعة تنظيمية من مكتبه الخاص، في الاحتفاء بهذه المناسبة بشكل مختلف، فيه أعمال للفكر والتنوير والتثقيف المعرفي والانساني. سوف نتناول في هذه المقالة الكبسولة البيئية التى وردت في كتاب “يسالونك” .
جاءت الورقة بعنوان “يسالونك عن البيئة: في صلاحها بقاء الحياة وفي فسادها فناء الحياة”, وتنقسم الى مقدمة تأصيلية عن غايات حماية البيئة ، وخاتمة تؤكد على الواجب الوطني والاخلاقي والانساني في الالتزام بقضايا البيئة والتنمية المستدامة. أما صلب الورقة فقد ركز على قضية التغير المناخي من حيث التعريف والاثر والجهود العالمية لمكافحته، وما يلينا في السودان من واجبات جاءت في عشرين نقطة، و أربع مطالبات لتحقيق الأثر الإيجابي الذي يلجم تفاقم الظاهرة ويعكس مردود اثارها السلبية على الحياة البشرية.
في فذلكة تاريخية اشارت الورقة الى عدة محطات مهمة في مجابهة العالم للتغييرات البيئية أهمها: انه في عام 1992م أقامت الأمم المتحدة آلية للاهتمام بالمناخ وعبره أجمع العلماء أننا أفسدنا المناخ مدركين لذلك أكثر مما حدث أثناء جهلنا به. وفي هذا فهو يؤرخ لقمة الأرض او مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية المنعقد في ريو دي جانيرو بالبرازيل 1992م. وسبقته عدد من المؤتمرات التحضيرية التي شاركنا في جانب منها حينئذ.
تاريخ مهم أيضا، انه في عام 1997م ، تم توقيع بروتوكول كيوتو الذي بموجبه التزمت الدول بأن زيادة درجتين حرارة سنوياً هو الحد الأقصى تجنباً لتسخين المناخ وغمر المدن الساحلية والجفاف والتصحر وكثرة العواصف. ثم تتابعت اللقاءات الى ان وصلنا الي مؤتمر واتفاقية باريس في 2016م، التي وقعت وصادقت عليها 195 دولة لخفض بث الغازات الدفيئة وحصر الزيادة في حرارة الأرض على درجتين مئوية أعلى مما كانت قبل الفترة الصناعية.
كما ذكر كاتب الورقة انه: ” من المؤسف أن الدول الصناعية تحدث أضراراً لا تصيب الذين ظلموا خاصة. بل تضر البشر أجمعين. اعترافا بهذا الظلم قرروا دعم الدول الفقيرة بمبلغ 100 مليار دولار سنوياً.”
اوضج الامام الصادق في ورقته ان البشرية تملك كل الإمكانات لاحتواء التغيير المناخي الضار ولكن مع غياب الإرادة السياسية لم ولن يحدث إصلاحاً لتجنب كارثة محققة بسبب القنبلة المناخية.
وعرجت الورقة الى تناول الوضع في السودان ، الذي قال الكاتب بانه احد ضحايا القنبلتين النووية والمناخية .
ولخصت الورقة واجبات السودان نحو البيئة في عشرين نقطة وشرحت ايجازا كنهها.
جاءت تباعا فيما يلي: اتباع البلاد دبلوماسية المناخ ، التعاون مع القوى المستنيرة في الدول الصناعية ، التوافق في إطار الـ 77 على تخصيص مبلغ الـ 100 مليار دولار تعويض لتمويل تشجير مناطق السافانا وحماية الناس من الغمر البحري ودعم التحول نحو الطاقة النظيفة، الالتزام بمحاربة الزحف الصحراوي،وفقا للخطة القومية لمكافحة التصحر. و اتخاذ هدف السودان بساط السندس هدفاً قومياً، وتنفيذ الخطط المراعية لسلامة البيئة في الزراعة المروية والمطرية الآلية والتقليدية، وتخطيط المراعي لكيلا تتداخل مع الزراعة.
ومما يجدر ذكره ان هذا التداخل أدى الى التضارب بين الفلاحة والرعي وحدوث صدامات واقتتال لا سيما في غرب وجنوب وشمال دارفور، مع ضرورة تكوين إدارة موحدة للمياه في السودان ، و تطوير قطاع النقل ، والاهتمام بالطاقات البديلة كإنتاج الاثانول أي الوقود الحيوي من العنكوليب ، و وإمكانية استغلال السودان لثرواته المعدنية بوسائل صديقة للبيئة ، و اسنثمار إمكانات السودان المعدنية الضخمة والمتنوعة، والتركيز الإيجابي على موضوع الذهب الذي ينتج الآن بوسائل ملوثة للبيئة ويتاجر فيه بوسائل ملوثة للاقتصاد الوطني، و مراجعة كافة إدارة تعدين الذهب على أساس إصلاحي.
ومن النقاط المهمة ايضا ، معالجة مسببات الجفاف والتصحر وإهمال الأرياف والحروب ، و تفعيل أنظمة الصرف الصحي ، وان يكون الوعي بالبيئة جزءاً مهماً من برامج التعليم في كل المراحل التعليمية.، و الاهتمام بوسائل التجميل الصديقة للبيئة .
كما دعا الكاتب الى تنظيم ورشة لدراسة القوانين الحالية المتعلقة بالبيئة وتطويرها لتحقيق الأهداف المذكورة هنا، يعقبها مؤتمر قومي للبيئة للاتفاق على ميثاق قومي للبيئة.
ابانت الورقة ان قضية البيئة لا يمكن تناولها في فراغ بل تتطلب تحقيق أربعة مطالب ، أولها ً: الحكم الراشد الذي يقوم على كفالة حقوق الإنسان الخمسة: الكرامة، والحرية، والعدالة، والمساواة والسلام. ويؤسس نظام الحكم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية وسيادة حكم القانون. و ثانيها: تحقيق السلام العادل الشامل والقضاء على الأسباب التي أدت للاقتتال وإزالة آثار الحروب. اما المطلب الثالثً فيتمثل في تحقيق نظام اقتصادي يحقق تنمية مجدية وعادلة فان الوضع الذي يميز قلة من المجتمع ويفقر الأغلبية خطيئة أخلاقية وقنبلة تمزق النسيج الاجتماعي. ورابعاً وأخيرا تحقيق علاقات إقليمية ودولية خالية من التبعية ومن العدائية وموزونة في التعامل مع حلقات انتماء السودان العربية، والافريقية، والإسلامية، والدولية.
*باحث في مجال البيئة والتنمية المستدامة
بسم الله الرحمن الرحيم
قراءة امامية في كبسولة بيئية (2)
د. محمد أحمد عبدالله العمرابي*
كنت قد حصلت على الورقة باكرا عند نشرها في وسائط التواصل الاجتماعي ، فقراتها على عجالة ومن غير تدبر متأني. ومتذ فترة ينتابني حنين الكتابة متقطعا من بين فج المشاغل الحياتية ، وحفزني الاحتفاء بيوم البيئة في الخامس من يونيو الحالي ، للعودة الى منصات الانطلاق التوعوية والتثقيفية والاعلامية المختلفة، وفاءا لذكرى ومدافعة لفضيلة الحقانية.
تصورت ان تناول ورقة “يسالونك عن البيئة” للامام الصادق المهدي والتي استعرضناها في الجزء الاول من هذه المقالة، و من ثم تدبرها وتاملها في الجزء الثاني هنا ، يستبطن ثمة تحديات ودافعيات ومحفزات، أهمها:
_ الحوجة الى أعمال الفكر والتفكر والتأمل في الارث الفكري والسياسي السوداني المعاصر. حبذا لو كان مقرونا مع متطلبات العصر وتداعيات الواقع المجرد. اذ إشار عدد من المثقفين والمهتمين الباحثين والراصدين الى ضعف المد الثقافي والاحياء الفكري ازاء ثورة ديسمبر المجيدة. ولعل الشواهد مبذولة في قدر ومضمون المنتوج الأدبي والفني للمجتمع السوداني، الذي لم يضاهي حجم واثر ما سبقه من زخم ابداعي واثراء وجداني، ما زلنا نجتره ، ومثال لذلك الأغنية الوطنية التي صاحبت ثورتي اكتوبر 1964م وابريل 1985م.
_ التحدي الأكبر مرتبط بالكاتب نفسه. فالامام الصادق المهدي تملك الجراءة وعمل بمثابرة في فتح مشارع حق معرفية اتصفت بالتعدد والشمولية، فاتسم منتوجه الفكري وجهده السياسي بقدر من التفرد و الابداعية التي لا تخطئها العين المبصرة. وكمثال لذلك طرقه لابواب موضوعات شائكة ومعقدة، كقضية البيئة ، التي نحاول استعراضها هنا.
كما انه سعى الى التوفيق بين قضايا الأصل والمعاصرة، في اطر موضوعية ومتوازنة، ومن منظور توافقي متعمق . كل ذلك ناتج خليط متمازج من السمت الشخصي الموسوم بالتوافق، والفكري الموسوم بقوة الطرح، والسياسي الموسوم بالابداع لا الاتباع .
_ لعل التحدي الذي يجابه أمتنا وبلادنا انما يكمن في الحواجز النفسية والتصورات النمطية والشحنات العاطفية التي تغذيها خرافات التاريخ حينا، ومماحكات السياسة حينا آخر . وهذا ما رايناه في الكثير من المثقفين والسياسيين والذين يتخذون مواقف واراء الضد، امتثالا للتقليد الاعمى أو العاطفة الهوجاء أو الكسب السياسي الرخيص. ولم يكن هذا غائبا عن ذهنية الامام الصادق حين قال:” ان اصحاب الحاءات الثلاثة: الحمق، والحسد ، والحقد؛ تجاوزوا عن كل ما قلت وركزوا على انني نبهت لخطر الاحتباس الحراري ظنا منهم جهلا وجحودا ان ذكر الاحتباس الحراري امر انصرافي”. ( خطاب العودة؛ 19_12_:2018م)
_ على المستوى الشخصي ، يتبدى التحدي في كونى ( كاتب المقال) احد تلاميذ مدرسة الامام الراحل الفكرية والسياسية. مما يعد عند البعض ان اسهامنا متحيزا وشهادتنا مجروحة. عزاءنا انه لم يكن يريد لنا ولغيرنا الطاعة العمياء ولا المحبة الصماء. وكنا نسير خلفه برؤية مبصرة وعهد موثوق بالمحبة التي تحتم علينا بذل الراي الآخر والنقد اللازم والتصويب الحازم عند الضرورة . نأمل ان يكون تناولنا لورقته هذه شهادة في حقه المجرد بكل موضوعية ونزاهة وأمانة. وإن صعب ذلك لضعف في استيعابنا لمجمل الاحاطة ومتعمق التناول. نطلب من القاري الكريم ان يعذرنا ويعفو عنا.
فبالرغم من الخلفية الاكاديمية والتخصصية المهنية، إلا ان الحكمة ضالة المؤمن انا وجدها فهو أحق الناس بها، خصوصا في مجال يستدعي المعرفة الموسوعية multidisciplinary ، وربطه بإيقاع السياسات والخطط والقرارات التنفيذيةpolicy implications and decisions making
ندلف للورقة لنقول انها جاءت غزيرة المعلومات ومحيطة بمختلف الجوانب النظرية والعلمية، مع تناولها التحليلي المرتب لما ينبغي اخذه في الاعتبار حيطة لاعمال الوقاية ومنهاجا لخطة عمل على المسار الدولى والوطني.
هذا أدى الى صعوبة تناولها مكتملة، إذ يصلح ان ينعقد لواء مقالات متتابعة لسبر غورها وتحليل معطياتها الموضوعية والمهمة.
فالكاتب استعرض بدءا التعريفات والمصطلحات ، مع التركيز على تلك المرتبطة بظاهرة التغير المناخي. وتماشيا مع عنوان الورقة نجد ان قدر الفساد الذي احدثته البشرية في المجال الجوي خلال آخر ثلاثة عقود زمنية، راكم اكثر من نصف معدلات الكربون المبثوث في الجو ،مما قد يؤدي لهجرات بشرية ونزوح سكاني وغرق لمدن ساحلية وجفاف لاراضي مستزرعة وزيادة وتيرة العواصف والاهوية والانواء
. بلا شك ان الصورة القاتمة التي رسمها الامام الصادق المهدي، تتفق مع مجريات الاجحاف العالمي لعدالة تناول قضايا البيئة و التغير المناخى وذلك نسبة لموازين القوى في العالم. الشاهد على ذلك تحكم مجلس الامن في مصير 200 دولة عضو بالأمم المتحدة.
كما اننا شهدنا ان احد اعضاء نادي الكبار بمجلس الامن وأكثرها تأثيرا في مجريات الاحداث ؛ ونعني بذلك الإدارة الأمريكية؛ يمكن ان تنكص عن عهودها وتنقلب على المواثيق العالمية، كما حدث ابان الادارة السابقة التي انسحبت من معاهدة باريس للتغير المناخى.
احتوت العشرون نقطة التي تلخص واجبات السودان نحو قضية البيئة على تفاصيل مهمة ومقترحات عملية وامثلة لقصص نجاحات مشهودة . من ضمن ذلك ان السودان كعضو في الاتفاقية الدولية لمكافحة التصحر ، ولوجود قانون وخطة لمكافحة التصحر ، يستلزم تعاون اكبر من المجتمع الدولي في معونته الفنية والمالية . كما قدمت اقتراحات بشان الخطة القومية لمكافحة التصحر من شأنها زيادة الكفاءة التخطيطية والادارية ، واستنفار الجهود الوطنية بشان تحقيق هدف السودان القومي في انشاء ” بساط السندس” . وهو يهتم بتخضير البلاد من خلال الأشجار الظليلة والبستانية واقامة الاسوار الخضراء وغرس بلايين الأشجار في منطقة السافنا. اشار الكاتب هنا الى تجربة العون الفنلندي مع الهيئة القومية للغابات في مشروعات تشجير غابي رائدة .
حظي مجال الطاقة باهتمام الورقة التي أفسحت له مساحة واسعة ، ومما تناوله الامام الصادق في هذا المجال الحيوي ، وجوب رعاية الطاقة النظيفة والصديقة للبيئة. واستشهد بالتجربة البرازيلية في انتاج الوقود الحيوي من قصب السكر ، والذي بلغت معدلات انتاجه 34 مليون لتر في عام 2019م.
اعتقد ان القاعدة المعلوماتية وخريطة الطريق البيئية وللتنموية المستدامة للثروات الطبيعية في السودان من خلال شراكات دولية واقليمية، طرح وتوجه في الاتجاه الصحيح. إذ اشار الكاتب الى موافقة دولة اليابان على إرسال بعثة فنية للقيام بهذا الجهود في عام 1989، ابان رئاسته لمجلس وزراء البلاد في العهد الديمقراطي الثالث .
ولعل ابرز ما جاء في الورقة من حيث المواءمة الزمانية ما يدور هذه الأيام بشان استغلال معدن الذهب تعزيزا لمنفعته الاقتصادية. إذ اقترح الكاتب اقامة بورصة للذهب، لتحد من التهريب ، وتحقق عائد مجزي إذ ان تصدير 100 طن في السنة كافي لسد عجز ميزان المدفوعات الخارجي. إلا ان أهم ما تناوله الكاتب من وجهة النظر البيئية لنشاط استخراج الذهب منع التعدين باستخدام الزئبق وضبط استعمالات السيانيد.
من الواضح ان مسالة الوعي المتنامي بقضايا البيئة وحمل لواءه من قبل مجموعات شبابية منتظمة في تشكيلات تنظيمية مختلفة ، وإن غلب عليها الطابع التطوعي ، اصبحت ظاهرة ملحوظة تستحق الاشادة والتقدير. وددت لو ان الورقة قد اشارت الى هذه الموارد البشرية الفتية ، والتي يمكن ان تعبأ في إتجاه تحقيق شعار يوم البيئة لهذا العام من خلال اطلاق الخيال ، واعادة الانشاء والتعمير لموارد البلاد الطبيعية المتنوعة .
كما ان اثمن ما يمتلك السودان من موارد ، في اعتقادي ، الاصول النباتية والحيوانية من سلالات وانواع وجينات متفردة . وجب الاهتمام بها وصيانتها وحسن استغلالها وفقا لمقررات العلوم الحديثة واهمها بحوث التنوع الحيوي والسلامة الاحيائية والصيانة القانونية لحقوق الملكية .
واذا جاز لنا ان نختم فليس ابلغ مما اختتمت به الورقة تناولها لمسالة التغيير المناخي والتي تعد قضية البيئة المحورية:
“ان الالتزام بتحقيق بيئة صالحة ومستدامة واجب وطني وأخلاقي وإنساني. واجبات سوف يدركها السودان الحر ويعمل على تحقيقها شعبنا المبدع: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) .
*باحث في مجال البيئة والتنمية المستدامة