“مابنحكم روحنا حكمنا قدر/اديني رضاك قدامي سفر” تذكرت دعوات صالحات تلحقني دائماً “وتنجدني” عند كل سفر ، دعوات من امي وكل أم لكل أبن ، فالامومة شأن مشترك مغروس بالضرورة عند كل كائن حي . وأنا اسير في الانبوب الطويل الذي يفضى الي الطائرة ، ولانه “سفراً مكتوب ما بتأخر ” كما تقول كلمات الأغنية الشهيرة للفنان القدير اسماعيل حسب الدائم ، كان لا بد من حمل ما غلى ثمنه ، وليس هنالك اغلى من قناعات لا تتزحزح بأن “أعز مكان في الدُنا سَرجُ سابح / وَخَيرُ جليس في الزمان كتاب ” ومع ان سابح المتنبي عليه سرج ولجام فإن سابحي الذي الج جوفه الآن له مقعد وحزام أمان ، اما الجليس فلي كما للمتنبي كتاب ،
وكان كتابي هذه المرة من مكتبة مدبولي الناشر الاقدم والاعرق لامهات الكتب ونادراتها في العالم وكان اختياري في صحبة سفري هذا كتاب فرجينيا وولف : “غرفة تخص المرء وحده” وهي ترجمة لعنوان الكتاب الاصل A Room of One’s Own ، مؤلفة الكتاب فرجينيا وولف تعتبر من رائدات الحركة النقدية النسوية في القرن العشرين ولا غرو في ذلك فهي ابنة السير ليزلي ستيفن محرر “معجم السير القومية” في ثلاث وستين مجلداً ، فحق لفرجينيا ان تقول كان أبي وترفع كتابها بيمينها وتقول هانذا .الاهداء النبيل في فاتحة الكتاب المترجم كان جميلاً وفريداً اذ يقول ” أحياناً تُهدى الترجمات وهذه الطبعة من هذا الكتاب مهداة الي صادق الصوت النبيل الحاج محمد مدبولي ” ، حملت الكتاب ودلفت الي الطائرة ماراً بالانبوب الطويل .
مقاعد الوسط في كابينة الطائرة العملاقة ايرباص 380 والتي تقع بين اهم مخارج للطوارئ تتوسط الطائرة ، يتم تخصيصها في غالب الامر للاسر والامهات ولا تخلو هذه المقاعد من ام تمارس امومتها بحنو وعاطفة غائرة في جيناتها ، لاحظت ان معظم من يجلسن علي هذه المقاعد امهات صغيرات ، حديثات عهد بالامومة وطقوسها المطلوبة للتعامل مع طفل غرير لم يبلغ السنتين من العمر ،
الام عليها ان تدير وتتعامل مع صراخ الطفل الذي أزعجه جو الطائرة قبل ان تطير و يتغير ضغط الهواء و يفعل ما يفعل باذن الصغير ، الام الصغيرة ما انفكت تحاول تسلق جبل صراخ طفلها الوعر بوسائل تجربها الواحدة تلو الاخرى ولا تجدي فتيلاً ، تمسك بلعبة صغيرة تحركها امامه ، ينفلت منها ويعلو صراخه ، تشهر شاشة الهاتف امام ناظريه من بعيد ، يمد يده ليزيحها ثم يزداد الصراخ ، تحمله علي كتفها ، تربت عليه بحنان لا يطمس معالمه الصراخ ، يصنع التربيت المنتظم علي ظهر الطفل نغمة تعلو وتنخفض مع صراخه العنيد ، تضعه علي حجرها تهدهده ولا يصمت الصراخ تهرع اليها المضيفة تحاول ان تلهو معه ،
تتفانى في لفت انتباهه بحركات بهلوانية لا يتجاوب معها ولا يعيرها انتباها بل يظل غارقاً في محراب صراخه لا يلوي علي شئ، ً الام التي اعيتها كل الحيل هدهدة ، و غناء ، حداء وتربيت لا تفقد صبرها البتة وهي تحاول ان تدارى صراخ صغيرها بالدأب كله ، تعامل الام الصغيرة التلقائي مع صراخ الصغير وممارستها لطقوس الامومة المغروسة في دواخلها طبيعة و جبلة ولم تدرسها طرائق ثابتة واجبة الاتباع لا حياد عنها بل شئ في داخلها وإلهام يتنزل عليها ويقودها لان تلبس مع كل صرخة لبوسها بلا تراتيببة او اتساق مرسوم ، وجامد وواجب الاتباع بلا فكاك ،الصراخ المتطاول لم يشكل عندي باي حال ازعاج رغم تعودي علي الهدؤ وتفسد علي الاصوات العالية مزاجي واستعدادي لقراءة كتاب فريحينبا وولف ( غرفة تخص المرء وحده) ،
المسرح المنصوب علي المقاعد 67 بحروفه المتعددة في الطائرة العملاقة في الوسط شمال باب الطوارئ الرئيس أبطاله أُم وصغيرها ، موسيقاه ( التصويرية ) صراخ يتماوج ، يعلو ويهبط ولكنه لا ينقطع يتحرك الطفل بين كتف أمه وحجرها ، وبين يديها ترفعه امام وجهها تضعه في مرمي حدقات عيونها ، ثم تحتويه بين الساعد والرسغ والانامل ، تقف فجأة تحاول حمله علي خاصرتها ، تعود جالسة تحاول ان تجد له مستقراً جالساً علي حجرها تبدل مكانه من الرجل اليمين الي اليسرى تجعله في مواجهة المسافرة الجالسة بالجوار ثم لا تلبث تحمله في واجهة الممر ليخترق صراخه حاجز الصوت عابرا الممر الي المسافر علي المقعد البعيد ، حوار عجيب وبديع بين ام وطفلها في حيز صغير وضيق ،
الطفل يصرخ والام تحاول اسكاته لا يستطيع امهر كاتب للسيناريو ان يسطر تفاصيل ما يجري وينفذ الي المخبؤ منه يضعه امام المشاهد . لان المخبؤ في هذا الحوار الذي قوامه صراخ وحداء وغناء وهمهمات ، متواليات من حركات كلامية ، صفير وهسيس ، وشوشة ، كلمات هامسة ودندنة ثم واحات عبير نغمة غناء ولا يخلو من ابتسامات ودموع ، لغة جسد انفعالات تعلو وتهبط ، مشاعر تضطرم يشب أوارها ويخبو، ترتسم ، تظهر وتختفي علي ملامح الوجه وعلاماته التعبيرية . وبعد استغراق طويل من الام مع صراخ طفلها ، تنخفض الاضاءة في كابينة الطائرة العملاقة، تهدهد حركة دوران الطائرة في مدرج الاقلاع الام وطفلها والجميع ، تهدأ حركة الطفل ويستسلم للنوم . أفتح الكتاب لأقرأ ماذا قالت فيرجينيا وولف في “غرفة تخص المرء وحده”.