عندما نزلت ( الغاط ) زائراً ، ظننت أني أعود لقريتي في شمال السودان ، وأني أطلُّ على باسقات نخلها ، وطلعها النضيد ، وأشرف من المرتفعات التي تحيط بها على دورها ومزارعها ، فأيقظني مضيفي وهو يجوس بي خلال المدينة ارتاد معالمها ، يقول مغاضباً : إن أنت إلا في الغاط ؛ فتنبه . إنه حرص المبهور ببهجة المدينة المدنية ، واتساق معالم الحداثة فيها بذوق فريد ، هكذا يريدني أن أنظر؛ فألفت نظره إلى عناق الأصالة بالتجديد ، فبينما تكللت منتزهاتها ومزارع نخيلها خضرة وسموقاً ، وشكلت واحة خضراء على سفح شاهقات تلالها التي أضفت عليها بهاءها وأناقتها .. تردك قريتها التراثية إلى عالم أسطوري ساحر ، ويا عجباً لأهلها وقد أبقوا قديمهم بكل أصالتها وعبقها !! وترى القوم بكل عزتهم وإبائهم ، بكل شموخهم . إنك لتندفع نحو ما أبقوه وراءهم ، تكاد تتلمسهم ، وهم جد أحياء دون أن ينالك فيهم ارتياب ، ولا يعتريك حيالهم كآبة أو نفور ..
نسعى خلال القرية معتبرين آناً ، ومنبهرين كثيراً .. نقف أمام مشهد بما يستحق من الإجلال ، فيدعوك غيره بما عليه من روعة الجمال ، وما أكثر ما يلفت نظرك في المدينة ويحرك وجدانك ، وما أكثر عناصرها الطبيعية الخلابة ممثلة في تراثها التليد وأوديتها ومزارعها وجبالها وتلالها ورمالها ..
حتى إذا انحدرنا إلى مركزها الثقافي ، نرتاد مكتبة الأمير عبد الرحمن بن أحمد السديري ووقفنا على أبهاء المركز وطرازه النجدي الفائق الروعة ، يدعونا الوليد وصحبه في ترحاب .. وما أن يكشف لنا بمحبةٍ أثراً ، يقودنا إلى غيره جزلاً ، وكأني به يعرض علينا سلعة عزيزة ، يأخذ بنا من قسم إلى آخر يشرح لنا سر البرودة الطبيعية التي تنساب إلى قاعة المكتبة ، وضخامة سمك حوائط بنائها ، وسر الإضاءة الهادئة التي تنير جوانبها ، بجانب ما أعد لها من الإضاءة الكهربائية الحديثة ، وغيرها مما وقفنا حياله في انبهار . إنهم يلخصون كل ذلك بأن أبرز ما يميز مبنى دار الرحمانية التي يلحق بها المركز وجود المبنى في بيئة ريفية تحيط به ، فأخذوا بمعطيات البيئة في تصميم المبني واستعملوا في بنائه مواد طبيعية ، فأقاموا بنيانه بمكعبات التبن المحلي وشيدوا بها جدران أبراج التهوية ، واستخدموا غطاء الطين وجريد النخيل والأخشاب في السقف ، وحجر الغاط في تكسية أرضية المبنى ؛ فرفعوا بذلك خواص العزل الحراري ، وأكدوا أن الأصالة العربية تستحق الاعتماد عليها لإبراز شخصيتنا بين العالمين ..
إنك إن أردت أن تتخذ لك مجلساً في قاعة المكتبة فلك فيها متسع بين قاعتها العامة للمطالعة ، أو قاعتها الخاصة إن شئت أن توفر لنفسك جوا مستقلا ومريحا ، وقد تنتقل منها إلى ركن تصفح الإنترنت أو ركن الكتب والدوريات أو ركن مطبوعات المركز الثقافي أو ركن المجموعات الخاصة ، وفي المكتبة قاعة للاجتماعات والدورات التدريبية المتنوعة .. ولعل مكتبة منيرة بنت محمد الملحم للنساء لا تقل إعداداً وبهاءً عن مكتبة الأمير عبد الرحمن بن أحمد السديري الملاصقة لها ..
وما كان اسم الغاط لتثيرني دلالته اللغوية ؛ فقد ذكرت المجامع أن الاسم يطلق على المنخفض الواسع من الأرض ، ومنه الغوط بالدلالة ذاتها ، وذكروا أن الغُوطة هي اسم البساتين والمياه التي حول دمشق . ويطلق أهل مصر الغيط على الحقل . ونقل لسان العرب عن أبي حنيفة أن كل ما انحدر في الأرض فقد غاط ، وفيه أن الغائط هو المطمئن من الأرض الواسع . وهذه الدلالة متوافقة لما عليها مدينة الغاط في الطبيعة ؛ إذ تراها حين تقدم عليها واحة خضراء في وادي الباطن على السفوح الغربية من حافة جبال طويق ، ولكن الذين عرَّفوا بالمدينة ذكروا أن اسم الغاط يعود إلى لغط السيل ، وهو ضجيجه واحتدامه ، فإذا جادها الغيث ، وكان غزيراً وافراً اندفع سيلها مزمجراً لاغطاً .. وقد أخذوا هذا التعريف مما ذكره عبد الله بن خميس في كتابه معجم اليمامة ، مع أنه صدَّر تعريفه موهناً بقوله : ( يبدو أنه مأخوذ من لغط السيل … ) ولم يجزم بتفسيره لدلالة الاسم . وبأي أخذت دلالة الاسم فلا مشاحة ، إذ أخذت الغاط علميتها من إطلاق الاسم عليها دون تبرير .. وحسبي منها أنها أثارتني ..