المقال هو رمانة الصحافة. وعلى خلاف العمود، أو الزاوية، فهو موقف الكاتب من الحياة باستطراد قليل. فالعمود أدعى للغة التيلغرافية المهموسة حتى ليكاد عند أنيس منصور، أو سمير عطا الله، ينتهي ويحتاجك لتفك شفرات الإرسال مرة، ومرتين. وأنيس قالوا إنه أنزل الفلسفة من عليائها، وشرحها في زاوية صحفية ضيقة. ولكنه في ذات الوقت صعد بلغة المقال الصحفي إلى مراقٍ من التبسيط المعمق، أو عمق البساطة. وإن ظن الجاهل أنه سيأتي بمثله فعليه أن يجرب.
ولكن فن المقال مجموع فنون الوضوح في ضبط إيقاع الفكرة بنغم غليظ. فمن الصعب تعريفه أكاديميا سوى إن فعلت لانفلت منك المعيار البحثي. ولأنه فن فإن الفنون أصلا قمة بحث العقل عن المثال. في وعي ولا وعي مقال ماركيز الصحفي تتشكل حيثيات الطرح فتخرج سطور ذهبية منضودة.
وانطلاقا من طرائف الباراسيكولوجي والميثولوجيا كان خالد القشطيني ينسج مقالاته المعرفية. وحين تقرأ حروفه المسبكة تندهش لإبستيمية طرحه. ومقاله يتحرك في مناطق الفلك، وأنواع الأرز، والجبن الهولندي. ولا ينتهي القشطيني عند تناول الطواعين التي بدأت منذ الخليقة، ويحيرك لاحقا بتعداد مهارات طهاة الإسكندر الاكبر.
وهكذ ولد المقال بلغته، وأسلوبه، وطرحه، منفلتاً عن أي محاولة للإمساك بحقيقة كيميائه فيغدو ضربا فنيا غير ثابت منذ أن بدأت كتابة الجدران في أزمان ما قبل السومرية
-٢-
ولئن كان المقال اقتصاد الجملة فذلك القاسم المشترك بينه وبين العمود. وإذ إن مقال حازم صاغية مثل لحن فيروزي لأحد الرحابنة فهو الاقتصاد الحر للغة في أبهى معانيه. يكاد حازم يعلمنا بخله بزوائد الكلم. فتكون حروف مقاله موزونة بماء الذهب. وعند مواطنه غسان شربل تبدو اللغة في كامل “التجلع” كما قال أبو آمنة حامد عن صوت ليلى المغربي. ولا بد أنها بلعت بلومات الموردة جميعها.
أسلوب المقال يختلف باختلاف خلفية الكاتب. ولكن المقال عند الصحفي الخارج من دهاليز التحرير اليومي تفنن في استعادة إبداعية للغة الخبر. ولهذا كان مصطفى أمين بفكرته يعزف باللغة في مقابل مقال الود الشقي محمود السعدني الذي يسلبك لحظتك. وحينما تنتهي من مقاله يعود روحك للوجود. أما مقال الطيب صالح فأسلوبه كله صالح، وطيب، من أي وجه أتيته. وعندئذ فأكدمة المقال الصحفي ضرب من الفشل عينه لأنه عصي على الحصر. فإذا كانت الأكاديمية، والايدلوجية منشغولتان بكدهما في تسوير، وتنميط المعرفة، فمقالنا الصحفي يمد لسانه ساخرا. وفحوى السخر أن منصور خالد في مقاله المطرز بحرير حداثي خرج عن أدبيات مقالية لتوفيق الحكيم، وأحمد حسن الزيات، التي انبنت عليها مدارس صحفية مصرية حتى الخمسينات. وظل مقال خالد منذ الستينات كأنه يقول: هاؤم كتابي فإقرأوا .. ومنهج نقده داخله.
عند الصحافة الإنجليزية الحديثة يخرج مايكل كينسلي مسؤول صفحات الرأي في لوس انجليز تايمز، وواشنطن بوست، ومؤسس مجلة اسليت، ليقول لنا إن الكاتب هو الذي ألف سيمفونية البجع وليس الموسيقار تشايكوفسكي. فحروف كينسلي في مقاله السياسي تريك سخر المفارقات، وفن الونسة ليستعير جملها الاعتراضية، وقفزاتها من جملة إلى أخرى. أما مواطنه هنري كيسنجر فيبهرك أسلوبه بتزاوج المعرفة الموسوعية السياسية لأستاذ هارفارد الستيني مع لغة الصحافة. ومثلهما ريتشارد كوهين البديع في الصياغة. والثلاثة يهود، ورابعهم كذلك عالم اللينقويستكس نعوم تشومسكي الذي يأتي مقاله محكماً.
والمقال في صحف الغرب يخضع لأسلوب التحرير الصحفي الخاص بالصحيفة حتى لو كتبه بايدن، أو انتونيو غوتيرش. أما نحن فقد “حدس ما حدس”..!
الحقيقة ان المقال الصحفي الجيد عابر للأديان، والايدلوجيات، وكذلك الأزمان. ثبت بعد الراديو، والتلفزيون، والانترنت، وسيظل عنصر التنوير الأول الذي لا غنى عنه لأي جنس تواصلي.
-٣-
سودانيا تنوع المقال عند الرواد أمثال معاوية محمد نور، والتيجاني يوسف بشير، ومحمد محمد علي، إلى جيل الريفي، وبشير محمد سعيد، وقيلي أحمد عمر، ومحمد الحسن أحمد، وفضل الله محمد، وعلى حامد، وسيد أحمد نقد الله، وعبد الرحمن مختار، وأخيه حسن مختار الذي برع عنده. إذ في عموديه “من الركن” الرياضي و”حزمة تفانين” يتناول الظاهرات، والكاريزمات الفنية حتى أن كاد يشوي أم بلينة السنوسي في بداياتها. ويحكى أن منافسه ميرغني أبو شنب كان يقول إنه لا قيمة لمقال يكتبه، ولا يجلب له الشتيمة من المريخاب الذين حرقوا مطعمه في أمدرمان يوماً نتيجة رأي فحسب. وكان صالح ابن البان، ومرسي صالح سراج، وحاج حسن عثمان، يكتبون دررا عبر المقال الرياضي الذي تحول لأدب كروي رفيع، ومسلٍ، ومستثير للرشاشات. وكان عثمان سنادة رائد المقال الاقتصادي بعد دخول الجامعيين إلى المجال. أما المقال الثقافي، أو الأدبي، فكان نجومه محمد إبراهيم الشوش، وعبد القدوس الخاتم، وعبد الهادي صديق، وعيسى الحلو، ومجذوب عيدروس، وسامي سالم وتطول القائمة. ولكن فوق كل هؤلاء كان جمال محمد أحمد الذي درس منصور خالد فقال: “إننا جميعا خرجنا من أسلوب جمال الرشيق”.
الغريب أن معظم خريجي قسم الإعلام في جامعة أمدرمان الإسلامية لم ينجحوا في كتابة المقالات في الأربعين عاما الأخيرة، أو يتصدروا المشهد الصحفي. بل ربما هناك قلة منهم برزوا في سائر طرائق المهنة الصحفية. هل الصحافة موهبة أم تخصص؟ وهذا سؤال أثار الكثير من اللغط قبل عقود بين الخريج تيتاوي وأكابر الصحافيين الرانكرز.
أسلوب الخبر الحديث هو جين المقال الصحفي بعد أن كانت لغة الصحافة في العشرينات تجري مجرى العبارة الأدبية للعقاد، أو باكثير. ذلك لأن لغة الصحف، أو الإعلام العربي الحديث خرجت من الصحافة الإنجليزية، والفرنسية، الرائدة في تحرير لغة الصحافة من ما نسميه جناسا، وطباقا. ومع ذلك يبقى هذا القول متصلاً بالعمود أكثر من المقال بوجهة نظر لشخص آخر، وهو محق. ذلك لأن أسلوب المقال الثقافي، والسياسي – على وجه الخصوص – ما يزال مكتظا بالجمل الطويلة المستطردة التي كانت سمة تراث الأقدمين، فضلاً عن ذلك فهناك كتاب مقال سياسي متأثرون بلغة الأدب.
قصر المقال، أو طوله، ليس محكاً لتحديد قيمته الصحفية. ولأنه ليس عموداً، أو زاوية، محصورة بعدد قد لايتجاوز السبعمائة كلمة، فإن المقال في الصحيفة، أو المجلة، أو الموقع، رهين بقدرة كاتبه على جلب اهتمام شرائح من الناس، وليس كلهم. فمقال قصير يمكن أن يكون أفضل من مقالين طويلين، والعكس صحيح. وعندئذ فالناس مقامات من الوعي، فيهم القارئ العجول الذي يقرأ الصحيفة ثم يستخدم ورقها تذكية لنار. وفيهم القارئ الذي يقرأ الصحيفة بقلم أحمر ليحتفظ بها.