أشرنا في الحلقة الماضية أن وزارة الثقافة والإعلام وهيئاتها التابعة لها لن تجد أثراً عندها في حيوات الناس بعد الثورة. ونتوقف في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بحسب أن الجهازين هما المرآة التي ينبغي أن تنعكس فيهما روح الثورة ورؤاها وفلسفتها. ولا تتوقف أهميتهما في هذا الإطار فقط، بل تزداد طوراً في بلد مترامي الأطراف ما تزال الأمية تنخر في جسده كالسوس. فالإذاعة التي بدأت البث في العام 1940م ما زالت تترنح، والتلفزيون الذي بدأ إرساله في العام 1962م (بعد مصر بعامين) ما زال يتنكب طريقه، بلا هدف ولا غاية ولا رسالة واضحة. نحن لدينا حساسية مع الأرقام، وإلا فأنظر – يا هداك الله – إلى من توجه الإذاعة برامجها. الإجابة طبقاً لدراسة أعدتها الوكالة الأمريكية للتنمية هي 33 مليون نسمة، يمثلون سكان الأرياف ونسبتهم 65% من تعداد السودان. لذا من المفترض أن الإذاعة تُحظى بشعبية كبيرة باعتبارها تستطيع الوصول لأناس ليس لديهم إمكانية لاستهلاك الكهرباء. أما التلفزيون فحدث ولا حرج إذ لا يشاهده سوى قلَّة ممن لديهم القدرة على استهلاك الكهرباء في العاصمة، فثمة قطيعة غير منظورة لكن أسبابها واضحة للعيان!
ذلك وضع مائل لا يكابر فيه سوى المتنطعون، مع أنه لم يكن وليد اليوم ولكنه وليد سنوات القحط والجفاف الذي خلقته الديكتاتوريات المتعاقبة، وكذلك الحقب الديمقراطية بتفاوت في الدمار. وكان الأمل أن ترسخ الثورة عهداً جديداً يجسد قيمها طالما أنها ثورة وعي قبل كل شيء. ولكن على عكس ذلك فإن منتوج هذه الأجهزة كان وما يزال بائساً. تأمل الصورة فستجد فقراً في برامج التنوع الثقافي والعرقي والنوعي، وضعفاً في التغطية العالمية والمحلية، وتخلفاً في المسح الإخباري. وبصورة عامة يفتقر الجهازان لروح الابتكار الجاذبة في ميدان يتنافس فيه المبدعون.
وكان الطموح يرتاد الثُريا، مثل تأسيس باقة قنوات تخاطب ثقافة الأقليات غير الناطقة باللغة العربية حتى تشعر بإنسانيتها ومواطنيتها في بلد تعد تلك ثروته التي لا يُعلى عليها. ويبقى السؤال قائماً: هل استطاع (عطار الهيئة) إصلاح ما أفسده الدهر؟
في التقدير أن الذين أخطأوا في حق الثورة العظيمة كُثر. غير أن أكثرهم نصيباً من الخطايا هي اللجنة المتفرعة من الحرية والتغيير والمنوط بها اختيار الكفاءات لشغل مختلف الوظائف الحكومية. بدءاً من رئيس وزرائها ومروراً بوزرائها وانتهاءً بهيئاتها التابعة. فقد كان المأمول أن تمارس هذه اللجنة عملها في الهواء الطلق بشفافية صدح بها الثوار في عصيانهم المدني، حينما رددوا شعار (زمن الغتغتة والدسديس انتهى) ولعلهم ظنوا أنه انتهى بنجاح الثورة وقُبر مع صانعيه ولم يخطر على بالهم أنه ما زال يتبعهم مُتنكراً!
لأنه بضدها نتبين الأشياء، فعوضاً عن ذلك إذا باللجنة تنافس الماسونية في تمويهاتها، لا أحد يعرف من هم أعضاؤها وماذا يعلمون ولا كيف يعملون؟ كانوا وما يزالون أشبه بالكائنات المجهرية. تتغير وجوه وتأتي وجوه أخر والناس لا يعلمون. كان يفترض في مثل هذه اللجان التي تولد من رحم ثورة عظيمة، أن تؤدي واجبها بروح شفيفة تتسق وقامة الثورة وكبريائها. وكان ينبغي أن تخضع اختياراتها لعين الشعب الفاحصة وهو خالق الثورة. فالوظائف العليا في الدول المتحضرة تمر بمخاض عنيف في استجواب شاغلها. ثم تُعرض على الرأي العام حتى لا يُخدع ويكون آخر من يعلم، وتنشر سيرهم الذاتية حتى يعرف الناس من أين جاءوا، وتقام المناظرات لاختيار الأكثر كفاءة بعد أن يخضع لأسئلة تكاد تشبه أسئلة منكر ونكير!
كان المرجو في السودان بعد ثورته أن يكون ذلك النهج حاضراً في منهج الوظائف العامة، حتى تنطلق سفينة الثورة باسم الله مجراها ومرساها. وعلاوة على النهج المذكور كان يجب إقرار شروط أخرى جسدها المثل السوداني الدارج: (الجمرة بتحرق الواطيها) ولعل ما يقابله في الفصحى المثل القائل (فاقد الشيء لا يعطيه) ذلك يعني أن من يتسنم وظيفة في حكومة الثورة ينبغي ألا يكون مؤمناً بالثورة فحسب، وإنما أيضاً عاملٌ عليها مذ كانت نطفة إلى أن أصبحت بشراً سوياً. وتلك سنوات حسوماً، هلك فيها الزرع وجف الضرع وزهقت أنفس وأرواح. فهل انطبق كل ذلك على الأستاذ لقمان أحمد؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، يساورني شك مستحكم في أن بعض القائمين على لجنة اختيار الكفاءات لم تطأ أرجلهم جمرة نظام الأبالسة البائد. ولأن فاقد الشيء لا يعطيه كما قال المثل المذكور، كانت جُل اختياراتها عرجاء وعوجاء وشوهاء، وقد دفعت حكومة الثروة ثمن ذلك خوراً وضعفاً ولا مبالاة، تلك الثلاثية التي التصقت بها حتى كادت أن تُصبح هويتها. فالناس الذين كانوا تواقين لشفافية الهواء الطلق وئدت طموحاتهم، والشهداء الذين مضوا لرحاب ربهم رحلوا كمداً وما يزال الناس يتساءلون عن أسماء القائمين على اللجنة. ولكن طالما أن الشفافية ديدننا في هذه السلسلة ونحن نبحث عن أسباب توقف قاطرة الثورة في العقبة. نقول بشواهد الحال أن الأستاذ لقمان لم يكُ ذاك الشخص المناسب لهذا الموقع!
ربما كان كفؤاً في موقع آخر. أما هنا فلقد رأينا الطموحات الكبيرة تنزوي مع بؤس الواقع طيلة عامين حسومين. فبالكاد يرى المرء وجه الثورة الوضيء في شاشتها. ولن ندخل في مغالطة بكثير من الشواهد، ولكن يكفي فقط ما حدث من (هرجلة) في الشهر الماضي في برنامج المشهد والدكتور محمد زين، وما حدث من تعسفٍ للزميلة سلافة أبو ضفيرة بملابسات ما زالت تتجرع مرارتها، وكذلك ما حدث في نقل وصول جثمان الراحل محمد طه القدال. أما في داخل (الحوش) فقد توالت (عرضحالات) العاملين حتى وصلت رئيس الوزراء ولا حياة لمن تُنادي. ومن عجبٍ أن المملكة التي يجلس على تلَّها الأستاذ، تضم 1200 عاملاً بدوام كامل، و500 من المتعاونين. في حين أن قناة الجزيرة وفروعها العشر، يقدر عاملوها بنحو 3000 أما قناة الحرة وفروعها التابعة لا يتجاوز عدد عامليها 800 فرد. مع أن الدولة الأغنى في العالم تتكفل بها.
لأننا نتحدث بشفافية ليس في الأمر حرج إن قلنا إن الأستاذ لقمان لا تربطه علاقة عضوية بهذه الثورة إلا بمنطوق الغفلة. فهو لم يسجل موقفاً تحفظه له الأضابير. والحقيقة التي يعلمها الذين كانوا يتقاطرون على العاصمة واشنطن من كل فج عميق للتظاهر أمام مبنى الكابيتول (الكونجرس) والبيت الأبيض والسفارة السودانية، متحملين زمهرير الشتاء بثلوجه وأمطاره ورهق المسافات الطوال، وهم يصدحون بشعارات صاخبة لتصل صُناع القرار في الإدارة الأمريكية، كان الأستاذ لقمان يتأمل تلك المناظر البديعة من شرفات مكتبه ويزرف الدمع على أطفال غزة!
يحق للأستاذ لقمان أن يقول إن اللجنة المذكورة لم تختاره لهذا المنصب ولا حتى الحرية والتغيير، ويحق له أن يقول إنه لم يأت به حزب ولا نقابة، لأنه جاء وفق ما سبق واسميناه (المحاصصة الشخصية) حيث ينعدم الحسيب والرقيب، فلا غرو إذاً أن يبدأ إنجازاته بتأسيس استديو يطلق عليه اسم (على شمو) ربيب الديكتاتوريات وكأن هذه البلاد عقرت من أسماء أضاءت لها حياتها. وبعد كل هذا يسألونك يا مولاي: لماذا تعثرت الثورة؟!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!
faldaw@hotmail.com