يختلف الإنسان عن بقية الكائنات بشيء واحد هو اللغة، الحيوانات لا تتحدث لبعضها ولا تملك ذاكرة وبالتالي لا تنقل أفكارها لبعضها عبر الاجيال، بينما الإنسان ينقل خبراته عبر اللغة من جيل إلى جيل اخر، الحضارة نفسها نتيجة طبيعية لتبادل المعارف عبر اللغة سواء كانت شفهية او مكتوبة، لذلك يؤرخ علماء التاريخ لوجود الأنسان بناءا على اللغة، فيقولون فترة ما قبل التاريخ وفترة ما بغد التاريخ، ويقصدون بفترة ما قبل التاريخ الفترة التي لم يكن فيها الإنسان يتحدث اللغة ولا يكتبها ولا يترجمها بأي شكل من الأشكال، بينما يقصدون بما بعد التاريخ الفترة التي عرف فيها الإنسان اللغة وكتبها سواء حرفا او رموزا، وهو تقسيم منطقي، فالإنسان الذي لا يتحدث ولا يكتب لا يمكنه أن ينقل معارفه لابناءه ولا هم يستطيعون أن ينقلوا معارفهم لابناءهم وبالتالي تحدث قطيعة فورية بين كل شخص وآخر لحظة انفصاله عنه سواء بالموت او الابتعاد.
اكتشف الانسان اللغة نتيجة لأحتياجه لوسيلة ينقل عبرها المعلومات والخبرات لغيره من أبناء الجنس البشري، هذه الحاجة ظلت هي السبب المباشر لاكتشاف الإنسان الأول للكثير من المعارف والخبرات التي لم يكن يمتلكها من قبل، (الحاجة أم الاختراع)، الحاجة الغريزية لاسكات الجوع قادت الإنسان لصناعة الطعام، الطعام نفسه تغير مع الأوقات من طعام نباتي ثم حيواني ثم من طعام غير مطهي إلى طعام مطهي حتى وصل اليوم إلى الاف الأنواع من الأطعمة والوجبات التي تقدم حول العالم، كل هذه الأطعمة المختلفة هي نتاج تبادل البشر للمعلومات جيلا بعد جيل عن الطعام ونوعه ومحتواه وطريقة طهيه. الحاجة لمكان آمن من الحيوانات المفترسة دفع الأنسان الأول لبناء البيوت، التي تطورت عبر السنين من كهوف او حظائر الى خيم ومنازل من الطوب حتى وصلت اليوم إلى ناطحات السحاب والابراج التي نشاهدها تتلألأ بالألوان، وكلها نتاج لتبادل الخبرات حول البناء والهندسة وتطورها بين البشر عبر الأجيال جيلا بعد جيل .
الأديان كذلك جاءت لحاجة الإنسان للإجابة عن أسئلة روحية مزلزلة مثل من نحن؟ من أين اتينا؟ كيف جئنا إلى هنا؟ ماذا نفعل هنا؟ كيف نفعله؟ إلى أين نسير؟ وأين ننتهي؟ وجاءت الأديان بكتب مقدسة هي الدليل المادي اللغوي الذي حفظ الاجابات الربانية على أسئلة البشر الوجودية. لذلك حوجة الإنسان ظلت هي الدافع المستمر لاكتشافه الاشياء، واكتشافه للغة كان الفصل الحقيقي بين ما قبل التاريخ وما بعده.
حاجة الإنسان للعيش السليم والصحيح قادته عبر الأيام والتاريخ إلى وضعه الراهن ضمن أقطار متفرقة فوق جغرافيا الكرة الارضية، بغض النظر عن وجودنا في اي دولة، وهل هي صغيرة ام كبيرة، غنية ام فقيرة، إلا أن الهدف والوظيفة العامة لجميع الدول متشابهة، وهي تحقيق حاجة الانسان/المواطن للسلام والاطمئنان والعيش السعيد. هذا الهدف هو ما تعمل له الحكومات في كل العالم، وهو ما يجب أن تعمل لأجله الشعوب، وهو هدف ثبت بما لا يدع مجالا للشك عبر تجارب البشر الممتدة انه لا يمكن إنجازه في ظل الحروبات بين أبناء الدولة الواحدة ولا في ظل الانقسامات العرقية والدينية والجهوية، ولا في ظل الصراع السياسي غير الاخلاقي، لذلك إذا ارد شعب ما تحقيق حلم الدولة المستقرة الآمنة المتطورة، فهو في حاجة ملحة لتبادل ثقافة حب الوطن والعمل لأجله والتفاني في سبيله بين الأجيال جيلا بعد جيل بعيدا عن أجندة الصراع والحرب والفرقة، وهذا بالضبط ما يحتاجه السودان اليوم، الحاجة الملحة لوطن أمن ومستقر يجب أن تدفعنا كما دفعت الإنسان الأول لبناء مكان آمن من الحيوانات المفترسة، تغير التاريخ ولكن الحاجة لم تتغير كدافع حقيقي لتحقيق الأهداف، فهل فهمنا رسالة الإنسان الأول إلينا؟!
يوسف السندي
sondy25@gmail.com