من الأهمية بمكان؛ إدراك أن العملية الثورية هي باستمرار عملية صيرورة أي تحولات؛ حدث هذا في كل الثورات التي غيرت مجتمعاتها نحو الأحسن في إدارة الاجتماع السياسي عبر التدريب المستمر على الديمقراطية والصبر عليها، ومن ثم العبور الى بر الأمان.
ومن الأهمية بمكان، كذلك؛ إدراك أنه في أعقاب كل سقوط لنظام ديكتاتوري عتيدومعمِّر ؛ أن تحدث بالضرورة فوضى اختلال أمني في المجتمعات التي كان يحمكها هذا النظام لأن الاهتزاز والسقوط الذي يحدث في هياكل السلطة الديكتاتورية لايمكن أن تعقبه هياكل ديمقراطية بصورة أوتامتيكية، إذ لابد من صراع بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة يحتاج لوقت وهذا ما يحدث لنا الآن بالضبط. .. حدث هذا في عصر الإرهاب الذي أعقب انتصار الثورة الفرنسية، وحدث أيضا في ثورات أخرى كثيرة.
لهذا ما يحدث الآن في السودان من اهتزازت أمنية في المجتمع بعد ثورة ١٩ ديسمبر المجيدة هو أمر طبيعي في القوانين اجتماع الثورات السياسية.
و هذا يعني، أيضا، أن تعبيرات الاندهاش المصحوب بالقنوط في شعور عامة الثوار من الشعب السوداني؛ ستكون بمثابة جهل بالقوانين التي تحكم التغيير الثوري في المجتمعات؛ وعنصر هدم سلبي لذا فإن مهمة المفكرين والباحثين تأكيد أن الذي يحدث الآن من اهتزاز أمني هو حال طبيعي من أحوال صراع الثورة والثورة المضادة. لكن الجديد في الثورة السودانية؛ أنها ليست كالثورات الكلاسيكية للقرن العشرين التي كانت تحدث تغييرات جذرية في كامل طبقة السلطة السياسية والاجتماعية والعسكرية، بل هي شبيهة بثورات الربيع العربي التي هي في حقيقتها نصف ثورة ونصف انقلاب، نتيجة لانحياز الجيش للثورة، وهي حالة سيكون فيها صراع الثورة والثورة المضادة أكثر حدة وأطول عمرا من الصراع بينهما في ما بعد الثورات الكلاسيكية.
لقد دلت الخبرة البشرية عبر تاريخ الثورات؛ أن البشر عادة لكي يتوافقوا على جعل القيم العليا كالحرية والعدالة والسلام والعيش المشترك وسيادة القانون والمساواة ؛ خبزا يوميا وأمرا طبيعيا كالماء والهواء في يوميات حياتهم، لابد من أن تسيل دماء كثييرة للأسف؛ ذلك هو الدرس الذي يجب أن نتعلمه من تاريخ الثورات والخبرة البشرية المكلفة لثمن التوافق بين الشعب على جعل التحاكم إلى القيم العليا أمرا عاديا في حياتنا ..
هناك تطور ثالث مهم جدا بعد ثورة المعلوماتية والاتصال منذ تسعينيات القرن العشرين، وهذا التطور يؤكد لنا: أن أي إعادة بحذافيرها لنظم إدارة وتصورات التغيير الثوري للقرن العشرين وما قبله، أي ما قبل ثورة المعلوماتية والاتصال، لن يكون مفيدا في أساليب الوعي الثوري الجديد.
فمثلا ضرورة أن تكون حقيقة ثورات الربيع العربي؛ نصف ثورة ونصف انقلاب هي من علامات عالم الثورات السياسية مابعد ثورة المعلوماتية والاتصال. هذا يعني كذلك أن القدرة على رؤية الموازنة الدقيقة بين المصالح والمبادئ في وعي قادة الثورة لابد أن تكون عالية الحساسية والمرونة المتصلة بمعرفة التحولات البنيوية التي حدثت مابعد ثورة المعلوماتية والاتصال، كالعولمة وقوانينها، وأحادية القوة العالمية (القطب الواحد) وانحسار الايدلوجيات وغيرها ..
في ظل هذه المؤثرات والمعطيات التي تتصل بقوانين صيرورة الثورات السياسية في عصر ثورة المعلوماتية والاتصال، يمكننا إعادة النظر في طبيعة ما يسمى بالمصالحة مع الإسلاميين، في السودان، وفي ما إذاكانت مصالحة مع مطلق الاسلاميين أو مع جزء منهم. فإذا كانت الثورة السودانية ذاتها بمثابة رأي عام سلبي للشعب السوداني ضد حكم الإسلاميين(الذي ليس هو بالضرورة تعبير عن حكم قيم الاسلام) فهذا بذاته ينبغي أن يكون مؤشرا كافيا لعقلاء الاسلاميين لإعادة النظر وتصحيح الأخطاء وأخذ الوقت الكافي للعكوف على النقد الذاتي استعدادا لمابعد المرحلة الانتقالية..