فى ستينات القرن الماضى دعانى الصديق الراحل محمود مدنى و كان زمانئذ قد ترك جامعة الخرطوم من السنة الثانية , دعانى لزيارة كاتب قصة قصيرة يدعى عيسى الحلو يسكن فى فندق الحرية فى السوق العربى, استقبلنا بترحاب وصوت هامس وقدمنا له نفسينا كمعجبين بقصصه الذى ينشرها فى الصحف ,ولتوه قام وصنع لنا شايا ووتلك خصيصة اشار اليها الصديق كمال الجزولى عندما رثاه فى كونه كان يقوم بدور الام فى تربية عياله بعد فقد زوجته .
اول مايلفت نظر الزائر لعيسى هو هسيس صوته الذى يصل اذنيك كنسمة باردة وذلك ما يكون عليه شخوصه الهادئون الذين تحمل ذواتهم بذرة المسالمة.
لقد عاصرنا عيسى محمود مدنى وانا وتجادلنا كثيرا فى شأن القصة القصيرة والرواية ووظيفتهما هل هى للمتعة الذا تية ؟, ام لقضية انسانية ما ؟ وكان النقاش يدور يومذاك حول سؤال هل الفن للفن ام الفن من اجل الحياة ؟ ذلك النقاش الذى استمر عقودا كاملة فى العالم العربى ,وعيسى الحلو كان مثل محمد عبدالحى رفض ان يربط نفسه بمدرسة ادبية معينه حتى مثل الواقعية الإشتراكية التى كنا نحن من انصارها ,ونرى ان من لا يعتنقها فى كتباته فهو محض كاتب برجوازى يعبرعن نفسه فقط, ويهرب من قضايا الجماهير, ولكنا اكتشفنا فيما بعد ان القضية ليست كذلك عندما تأكد لنا إن توظيف الفن من اجل الناس ليس ضروريا ان يكتب من داخل ورش العمال ومزارع الفلاحين وان الفن هو اضافة الجديد للحياة فى حركتها الى الأمام .
عاش عيسى الحلو عصر صلاح احمد ابراهيم ,وعلى المك, وابوبكر خالد, والطيب زروق وعثمان على نور ,والزبير على ,وخوجلى شكر الله ,واستمد مادته من واقع الستينات الذى انتجته مرحلة مابعد الأستقلال عندما تأثرت الحركة الأدبية بمشروع المدرسة الجديدة فوجد عيسى نفسه داخل هذه الموجة التى لم يكن السودان بعيدا عنها , ولكن كيف كانت ادوات عيسى المفاهمية ؟ هذا السؤال الذى يجيب عليه عليه هو نفسه (قرأت الواقعية الاشتراكية والواقعية النقدية عند يوسف إدريس, وتشيكوف، ورغم إعجابي بهما فإن مزاجي التجريدي ما زال ملازما لي.. فأنا دائما أقف عند الأسئلة الكبرى، تلك التي تحد من حرية الإنسان، كالموت والجوع, والجنس ,والمرض وفي مراحل متأخرة اكتشفت أن الرواية الحديثة التي جاءت في أوائل القرن عند موزيل, وكافكا ,وبروخ ,وحتى التشيكي ميلان كونديرا ,والإيطالي ألبرتو مورافيا هي عبارة عن أسئلة وجودية عميقة حول مقولات فلسفية، ولعل هذا يظهر بوضوح في روايتي الأخيرة “الورد وكوابيس الليل”، وكل الكتاب الناضجين هم كتاب أصحاب عوالم وليم فوكنر الأميركي عالمه المسيسيبي الأدنى، أرنست همنغواي عالمه تحمل الأذى والألم عالم كافكا هو غرابة هذا العالم وغربة الإنسان المعاصر وعزلته، أما ماركيز فهو الذي يبحث بشكل دائم عن الروح التي تختفي وراء الأشياء)
اذن كان عيسى باحثا من ذلك الطرازالذى يزيل قشرة الواقع الخارجية ويدخل فى لبها الانسانى ولذلك يجد الكثيرون صعوبة فى فهم نصوصه التى تطرح الأسئلة الكبرى, مثل جدوى الوجود الأنسانى مقابل كنه الموت ( يعشق عيسى الحرية حتى إنه يجعلها معادلاً للحياة: “يقول الموت نقيض الحرية، واستمرار التفكير فيه يقتل حيوية الحياة ويجعلك كمن يحيا في الموت ويقول. أنا لم أسأم العيش لأفكر كثيراً بالموت. الحياة قبل الانخراط في اللحظة المعاشة تحتمل أكثر من طريقة للعيش، لكنك حين تنخرط في هذه اللحظة داخل قالب سلوكي محدد، ثم تنتهي اللحظة، فأنت تشعر بأنك لم تتحقق كذات في هذه الحياة بكل طاقة الإرادة المبدعة، لذا نكرر ما عشناه في الماضي لأننا لم نستطع إنجازه بالكامل .
كان عيسى كافكويا, وفوكنرىا ,وماركيزىا فى وقت واحد ,كتب لناقد مجذوب عيدروس فى روايته “صباح الخير ايها الوجه اللامرئي الجميل “فوصفها بأنها “متعددة الاصوات تضمنت رواية داخل الرواية كما تضمنت تداخل الازمنة فهى تقوم علي الذاكرة التي تتراجع وتحيا عبرالمكان والزمان وتفتح الرواية كوة امامنا نطل منها علي عالم من المرئيات واللامرئيات وننتقل عبر الازمنة والامكنة ونتامل فيها الكوني والحياتي واليومي.” “رحم الله عيسى رحمة واسعة وجعل ملحدة روض من رياض الجنة .