أعظم ثورتين بين ثورات الربيع كان ثورتي الياسمين في تونس وثورة ديسمبر في السودان . عدا ديسمبر والياسمين كل الثورات الأخرى في سوريا واليمن وليبيا ومصر انتهت إلى لا شيء، بل انتهت الى ما يشبه الدمار الكامل، كما حدث في سوريا واليمن وليبيا، وكانت دائما ثورتا الياسمين وديسمبر تعطيان الشعوب بعض الأمل في الغد الأفضل .
ها هي ثورة الياسمين قد سقطت سقوطاً مروعاً. ما حدث في تونس انتكاسة حقيقية، ولا أجد أي تسمية أخرى غير كلمة السقوط، والنكوص عن الديمقراطية.
يحاول بعضهم القول إن ما حدث هو تصحيح للمسار الديمقراطي، وإن ما حدث هو استخدام الدستور لحماية تونس من الانزلاق الى الفوضى .. في رأيي الشخصي كلها تبريرات واهية، وهروب للأمام من الاستحقاق الديمقراطي. كما أردد دائما في كتاباتي ما قاله الزعيم الأزهري: ( الديمقراطية نار ونور، ومن أراد نورها فليصطلي أولاً بنارها) .
والمباديء لا تتجزأ، إما أن تؤمن بالديمقراطية أو لا تؤمن بها، ولا توجد منطقة وسطى بين الديمقراطية والديكتاتورية.
أما وقد حدث ما حدث في تونس، علينا أن نبحث عن الأسباب الحقيقية وراء هذا التحوّل والنكوص والعودة إلى الاستبداد، وهل يمكن أن يتكرر السناريو نفسه في السودان؟ وهل يمكن أن تسقط ثورة ديسمبر كما سقطت ثورة الياسمين؟ تعالوا معنا نسقط الحالة التونسيةعلى الحالة السودانية؛ لنقرأ المستقبل، ونتفادى ما يمكن تفاديه.
الذي حدث في تونس أن الشباب نجحوا في ثورة الياسمين، واقتلعوا نظام زين العابدين الاستبدادي، وفتحوا الطريق واسعاً لكل ثورات الربيع العربي. ولكن وللأسف الشديد، وبعد هذا النجاح العظيم، تركوا المجال تماماً لصراع الأحزاب السياسية، ولم ينتبهوا إلى أن الثورة قد سرقت ( بضم السين) منهم، والشمس في رابعة النهار . لم ينتظم الشباب في الأحزاب، ولم ينظموا هم أنفسهم في أحزاب خاصة بهم، وتركوا المجال للأحزاب، وعلى رأسها حركة النهضة أكثر الاحزاب نشاطاً وتنظيماً لتكتسح الانتخابات، ليس لأنها الأفضل، ولكن لانسحاب شباب الثورة، وأصحاب القضية الأصيلة، وترك الساحة فارغة لهم ،فوصلت ثورة تونس إلى ما وصلت إليه الآن، وهنا لابد أن نعترف أن حركة النهضة وصلت للحكم بصناديق الانتخاب، وليس بالمارشات العسكرية وشباب تونس يتحملون مسؤوليتهم كاملة في وصول هذه الحركة لكراسي الحكم.
وعذرا أن أقول لكم: ثورة لم تحافظوا عليها كالرجال لا تبكوا عليها كالنساء.
نأتي لحالة الثورة السودانية، ونقرأ سطورها بتمعن، سنجد السناريو نفسه يسير في الخرطوم، وبكل الفصول، وإذا ترك شباب ثورة ديسمبر العظيمة المجال فارغاً كما يحدث الآن قطعا ستكتمل فصول المسرحية بنفس نهاية ثورة الياسمين.
وستأتي الأحزاب القديمة نفسها ببرامجها القديمة نفسها، وبالشخوص نفسها، وستأتي الحركات المسلحة بعقليتها المتحجرة نفسها. وسيبدأ الصراع داخل البرلمان المنتخب، وستتوقف الحياة العامة، وعند الخامسة من صباح يوم من الأيام ستقطع إذاعة أم درمان برامجها المعتادة، وستعلن أن العقيد الفلاني ـو العميد العلاني سيذيع عليكم بياناً مهماً فترقبوه، وستخرج الجماهير فرحة بهذا الانقلاب؛ لأنها ضاقت ذرعاً من تشاكس الأحزاب والحركات داخل الحكومة والبرلمان، ونبدأ مرة اخرى الدورة الجهنمية للحياة السياسية في السودان.
هذا هو السيناريو المتوقع إذا سارت الأمور بنفس الطريقة التي نراها الآن .
اذن أين يكمن الحل؟ وكيف يمكن تفادي هذا السناريو البغيض؟
الحلّ هو أن نعترف أولاً أنه لا توجد ديمقراطية بدون احزاب. ووجودها شر لابد منه؛ لتكتمل العملية الديمقراطية. وعلى الشباب أن ينخرطوا في هذه الأحزاب الموجودة حالياً، وتصحيح أوضاعها الداخلية، أو إنشاء أحزاب شبابية جديدة تستطيع أن تستوعب كل طاقاتهم.
وعلى الاحزاب السودانية أن ترتقي قليلاً إلى مستوى المسؤولية، وتجدد نفسها وأن تواكب العصر قليلاً وأن تخرج من هذه القوقعة التي تعيش فيها ردحاً من الزمان . وعلى الأحزاب الكبيرة التي تشظت وانقسمت على نفسها عشرات المرات أن تعود إلى نفسها وتتحد في كتلة واحدة . وعلى الحركات المسلحة أن تضع سلاحها للأبد، وتكون أحزاباً سياسية حقيقية بعيدة عن لغة الحرب والقتال، وتمارس نشاطها عبر صناديق الاقتراع ،وليس عبر فوهة البندقية.
إذا لم يتم ذلك كله، فتوقعوا سقوط ديسمبر، كما سقطت ثورة الياسمين، وسنبكي أيضاً على ثورة فشلنا في الحفاظ عليها.
وكان الله في عوننا.