منذ أيام قليلة، رحل عيسى الحلو، أحد الذين يتنفسون كتابة، ويعرقون كتابة، ويتحدثون نيابة عن الكتابة في أي وقت، وكان رحيله صدمة حقيقية، لأن لا أحد من المشتغلين بالإبداع في السودان يستطيع تخيل المشهد السردي والنقدي بلا عيسى الذي أسميته ناظر المدرسة منذ سنوات. وكان ناظرا مختلفا، وغريبا، ويتحمل وحده، تقريبا، الدور الإيجابي والسلبي الذي ظهر به تلاميذ الكتابة منذ سبعينيات القرن الماضي إلى الآن.
أنا أعرف عيسى الحلو منذ بداياتي في الكتابة، وحتى قبل البدايات، أعرفه عبر قصصه البديعة المستوحاة من البيئة السودانية، والمجتمع السوداني، وأعرفه ناقدا أدبيا، وأحد أهم المشرفين على الملاحق الثقافية في الصحف السودانية. تجده في ملحق هنا، ثم في ملحق هناك، يؤسس مدرسته جيدا، وهكذا أخلص لمهنة الصحافة الثقافية، مثلما أخلص للكتابة الإبداعية، ولإنارة الطريق لمن أتى من بعده.
وفي نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، حين عدت من مصر حاملا روايتي الأولى «كرمكول» التي كتبتها ونشرتها هناك، أول ما خطر ببالي أن أبحث عن سند محلي، يقدمني للمشهد الكتابي في السودان. لم أفكر إلا في عيسى الحلو، فكرت فيه ناقدا أولا، ثم مشرفا ثقافيا على ملحق، لا أذكر في أي جريدة كان، لكن أذكر أنني عثرت عليه في مكان ما قرب مستشفى الخرطوم، في غرفة ضيقة مكدسة بالأوراق والكتب المغبرة، ورائحة التبغ. كان يرتدي الثوب والعمامة، ويدخن سجائر البرنجي المحلي، ويبدو أنني خدشت انشغاله بمادة كان يحررها، بقلم من الرصاص غير مبري جيدا، لأنني قدمت نفسي، وكتابي بكلمات سريعة، وانتظرت أن يرحب بي الرجل، ويناقشني في ما ذكرته. لكن ذلك لم يحدث، عيسى استلم مني الكتاب من دون أن ينظر جيدا إلى وجهي، قال: سنقرأّْه، ثم عاد إلى مادته يكمل تحريرها.
لكن عيسى الحلو لم يقرأ «كرمكول» كما بدا لي، فلم أجد أي مادة نقدية أو حتى مراجعة عادية في واحد من ملاحقه، التي ظللت أتابعها، برغم انشغالي في عملي الطبي، أو ربما قرأها ولم يجد فيها ما يستحق التنويه عنها، فأسقطها من مواده. وحقيقة كانت تلك الرواية شديدة الصعوبة، رواية من الشعر، قد لا يتذوقها سوى الشعراء، وحتى الشعراء أنفسهم قد يظنونها شعرا مسخا. لكن أهم ما فعلته لي هي أن حولتني من كتابة الشعر إلى السرد، ذلك المشروع الذي استمر معي حتى الآن.
سنوات مرت على لقاء الغرفة الضيقة ذلك، ثم سافرت للعمل في الخارج، واتسعت التجربة التي أحبها عيسى الحلو، وكتب عنها كثيرا في ملاحقه، وجاء ليشارك بأوراق نقدية في ندوات كانت تعقد لي في الخرطوم حين أعود في إجازة ما. وأقام لي بعض تلك الندوات، كان إيجابيا جدا، وازدهرت بيننا الصداقة، ولدرجة أنني كنت أذهب إليه يوميا في صالة التحرير بمبنى «الرأي العام» وسط الخرطوم، حين أكون في البلاد، نتحدث عن الأدب والكتابة، في حوارات مطولة، وندخن السجائر، وغالبا ما يسلمنى حوارا للجريدة مكتوبا بخطه الصغير الدقيق، الجميل فعلا، لأجيب عليه وأسلمه له قبل سفري.
وأيضا سألته كما سألت الراحل إبراهيم إسحق من قبل: لماذا لا ينشر شيئا من إبداعه عربيا؟
فأجاب بأنه يكتب للسودان، وسيظل يكتب للسودان، من دون أي تفكير في انتشار عربي. قلت له: أنت بالفعل ناظر مدرسة الكتابة السودانية، فابتسم. قلت له إن صديقنا العراقي كاظم جهاد أشار إليك في أحد كتبه بالفرنسية، بأنك من الكتاب الكبار، فلم يبد منبهرا أو مسرورا، هي ابتسامة صغيرة، علقها ثواني على شفتيه، ثم أزاحها بعيدا.
كان عيسى أطلق في إحدى تجلياته الغريبة مقولة أن الطيب صالح هو سقف الكتابة السودانية، الذي لن يخترقه أحد.
تلك كانت مقولة غير مطابقة لمواصفات تحليلاته الذكية في رأيي، وأغاظت كتّاب الرواية بشدة، كونها أطلقت من الناظر، العارف بالأمور، وكونها كتفت محاولات المبدعين بشدة. وأيضا لأنها مقولة سهلة التداول، وتم تداولها بالفعل من كثيرين لا علاقة لهم بالكتابة، وكنت ألتقي بعض الناس، فيقولون لي: لماذا تكتبون؟ لن تخترقوا السقف أبدا.
وقد ظل عيسى الحلو محافظا على رونق مقولته تلك، بالرغم من تبنيه لكثير من الأصوات المبدعة، ولتفانيه في تحليل إبداع الأجيال السودانية المختلفة، ثم أقلع عن ذلك في السنوات الأخيرة، وكتب مرة، أن السقف لم يعد كما كان.
وبالرغم من أن الراحل لم يكن من هواة الخروج من السودان، سوى بشخصه أو بكتابته كما ذكرت، إلا أنني عثرت عليه منذ ثلاثة أعوام في مؤتمر إعلامي مرتبط بالكتابة الإبداعية في إمارة الفجيرة. كان متأنقا في بدلة ورباط عنق، وبدا ناظرا فعليا، وقدم مشاركته بثبات لكن بوهن، ذلك أن آثار التدخين قد عبثت بصحته كما يبدو، لكن ظل محافظا على ملاحقه الثقافية، يعمل دائما، ويكتب دائما، ويجري الحوارات مع كل من يجد في تجربته غنى ما.
سنفتقد ناظر المدرسة كثيرا، سنفتقد حسه المدهش تجاه الأشياء والنصوص، نفتقد حكاياته الأثيرة عن مدينته أمدرمان، وأعماله الإبداعية التي ما انقطع عن كتابتها أبدا، وربما لديه رواية لم تكتمل، مكتوبة بخطه الصغير الجميل. وأسوأ ما في الأمر، ذلك الإحساس بالخواء الذي قد نعود به من السودان، في كل زيارة.