ما كتبه أليكس دى وال المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي، وأستاذ الأبحاث في مدرسة فليتشر للقانون والديبلوماسية في ورقتة عن السوق السياسي بالسودان لا يزال صادماً بوصفه تحليلاً دقيقاً لأزمة السودان في مجتمع السلطة السياسية الحالية، وافتقارها إلى العديد من مبادئ الحكم الراشد وأساسياته.
ويشير أليكس في أهم فكرة ناظمة لورقته إلى أن ما أسماه بالسوق السياسي يفتقر إلى الموارد المالية، والمهارات والسمعة الحسنة، بوصفه سوقاً قائماً على المرتزقة شبه العسكرية، ورأسمالية المحسوبية والمحاصصة، الذين يفتقدون إلى الوسائل للقيام بذلك.
ويتنبأ أليكس بأن الانتقال إلى دولة مؤسسية ديمقراطية -وفقاً لتحليل منهج إطار السوق السياسي – أمر غير متوقع، وبحيث يفسر تحليله السوق وفق منعطفاته الحاسمة كسوق ناضج تحولت فيه المناصب العامة، والولاءات السياسية، والخدمات إلى سلعة وبضائع قابلة للبيع والشراء، مشيراً الى مراحل طفرات وانتكاس السوق السياسي السوداني، وبروز قوى أمنية منقسمة في التنافس على ملكيته، ولكن بتوحد حول اقتصاد ريعي طفيلي يقوم على المحسوبية.
ويلفت الباحث النظر إلى أن هذا الاقتصاد الريعي كان – دوماً وفي فترات سابقة- يعتمد على عائدات النفط واللصوصية المركزية لمقدرات الدولة، وتكديس الثروات بغرض فرض سلطته على الآخرين، وجعلها سلطة أمر واقع لا فكاك منها، ولا حلول بتفكيكها.
ويكمن مصدر الصدمة بالورقة فيما أسماه أليكس بالسوق السياسي السوداني الذي يظلّ ورغم اقتراب ثورة ديسمبر من بلوغ عامها الثالث بالتشكيل ذاته الذي تتقدم اقتصادياته السياسية الميلشيات والمؤسسات العسكرية والأمنية بوجود كثيف ومقلق يكاد يختطف اقتصاد الدولة بأسره بعد تحالفات جديدة يقيمها هنا وهناك مع قوى عسكرية وميليشيات مسلحة أنتجت تحالفها معه اتفاقية جوبا، وقوى مدنية قديمة سياسياً، جديدة في تطلعاتها للانتظام ضمن التحالف العسكري الاقتصادي الحاكم، وبحيث يبحث جميعها عن موقع سلطوي سياسي بمشاركة في الاقتصاد السياسي المنتج من قبل دولة الانقاذ، والموروث المنتقل للمرحلة الانتقالية.
وتبدو أحزاب كحزب الامة، والبعث الأصل، والمؤتمر السوداني، والتجمع الديمقراطي أوضح تلك القوى السياسية المدنية.
وتشكل القوى المشار إليها آنفاً الاضلاع الحاكمة لسلطة الراهن السياسى السوداني الذي أعقب ثورة ديسمبر، وهو ما يشكّل تناقضاً صريحاً، وتفاوتاً عميقاً بين الثورة وخطابها الرئيس المعلن بعد تفجرها، والقاضي بالتأثير في الفضاء السياسى التاريخي القدبم، ان لم يكن القضاء عليه كسوق سياسي (النادي السياسي الضالع في إنتاج الفشل التاريخي منذ الاستقلال)، والمطالبة بمجتمع سياسى حديث يقوم على قواعد السياسة المعاصرة المنتمية لمشروع وطني متحد، وواحد.
بيد أن تكتيكات الإدارة للسوق السياسى المتوارث اقتضت التوظيف للجهاز التنفيذي على سلطة وبأس الاقتصاد السياسي الكليبتوقراطي الذي يرى في الممارسة والوظيفة السياسية سلعة تدير عملياتها رأسمالية المحسوبية كقلة متآمرة، أو متنافسة على الأنشطة الاقتصادية المركزية الفاسدة.
ويؤدي عامل التواطؤ بين الطبقة السياسية الحاكمة وشريحة رجال الأعمال في الاستيلاء على مال الدولة واختلاسها وإعادة تدويره لمصلحة مؤسساتهم الاقتصادية وتحالفاتهم السياسية على حساب المجموع العام للمجتمعات وسكان الارض – العامل الأهم في ظاهرة السوق السياسي المسيطر.
وتعدّ الراسمالية الريعية والطفبلية كلمة سرالاحتكار للسلطة، وهو ما يفسر مخرجات السياسات الاقتصادية المنتجة والمدعومة من جهاز اقتصاد الدولة (وزارة المالية والبنك المركزي) المتجهة إلى التحرير الاقتصادي لصالح جعله تكريساً اضافياً لثروات القوى الاقتصادية المتحكمة، بالاستفادة من تشوهات الاقتصاد السوداني في مرحلة الإدارة السياسية الإنقاذية السابقة والممتدة حتى لحظته.
ويؤرخ أليكس في ورقته لبدايات التشوهات الاقتصادية منذ عام 1978م الذي شكًل منعطفاً سالباً في حركة الاقتصاد السوداني إلى درجة بلوغه ذروة صعوده بأواخر التسعينيات عند حدوث بدايات الطفرة البترولية كمقدمة لبروز سوق سياسي ناضج يقرّ بما كانت قد وفرته مرحلة ما بعد المصالحة الوطنية 1978م، وتخفيض قيمة الجنيه السوداني، حيث صارت المناصب العامة، والولاءات السياسية، وإدارة وبيع الخدمات العامة سلعة توطد بها الدولة أقدام الحلفاء المرحليين، وتعيد تدوير راسمالها الكليبوتوقراطي على أساس من المحسوبية المقنعة أحياناً.
وبقراءة فاحصة لما ذكر أليكس ولم يذكره إلا أننا وفي مستوى الملاحظة على الواقع السياسى القائم سوف نعثر على حقيقة أن ليس أدلّ حالياً على قيام الفارق النوعي والمفارقة بين أنشطة المحتوى الاقتصادي المركزي واستمرارها في نهب الثروات، وتعميق دعائم الحركات المسلحة، وقوى الهامش المنضوية تحت اتفاقية جوبا للمزيد في فتح المشاركة السياسية، وليس التنافس السياسى الحر.
ولكن فإن حجر زاوية التناقض يقوم في حيز حيوي ومهم لا بد من التوقف عنده، وهو الاغتراب بين مطلب تحقيق الديمقراطية كأحد متطلبات الثورة والتغيير اللذين يشترطان حدوث الحد الأدنى من الاستقرار الاقتصادي، ودخول لاعبين اقتصاديين جدد يمثلون المصالح الشعبية، والتطلعات الاجتماعية للتغيير وبين واقع الاقتصاد السياسى في تشكيلات سوق الراهن المتكّون بعد الثورة. فهذا الاختلاف الحاد هو ما يفرق حالياً بين الثورة والدولة، ويؤكد استخدام الدولة في عدد من أنشطتها الظاهرية لفكرة مخاتلة الثورة، وترجمة تلك المخاتلة عبر طرق وأساليب ملتوية يؤدي فيها الجهاز التنفيذي دور المغفل النافع او اللاعب المتواطئ بتقديمه حفنة من الرشى لتشكيل وإرسال خطابات تطمين واطمئنان للمجتمعات السودانية وسكانها الواقعين تحت نير الكليبتوقراطية الفاحشة.
غير أن تحت مظلة ذلك التواطؤ لا بأس من أن يجعل تلك الخطابات المداهنة الناعمة تنظوي على نسبة من الحريات الاقتصادية المحفزة، المشجعة للسكان وتنويعها من فترة لأخرى، ولكن بالحفاظ والمحافظة على بقاء الصفة الجوهرية لاقتصاد المضاربات أو السمسرة، ونهب مقدرات الدولة والأرض لمراكمة رأس المال الاجتماعي المضاد للتحوّل الديمقراطي والمتكوّن بالأصل من شرائح التجار، والسماسرة، والمضاربين، ورجال الاعمال الموالين وإطلاق أيادي شرائح العاملين في التعدين الحر الذي تقع حقوله الرئيسة الرسمية الضخمة تحت قبضة ميليشيا مسلحة حاكمة ذات جبروت لا يخفى على العين.
إن مستقبل الثورة وخطابها للتغيير ووضع السودان في طريق التنمية المتوازنة العادلة الإيجابية يعني بناء المجتمع السياسى من جديد، وعلى مراكمات نقدية علمية، مهنية، بتجريده أولاً من صفة السوق، ومن ثم مواجهة أباطرته بالمقاومة الشرسة بشتى الطرق الممكنة لتخفيض سلطتهم الاقتصادية، وإلغاء الاحتكار، والجلوس عبر طاولة وطنية مستديرة لخلق التوافق المطلوب، هذا إن أحسنا الظن بسلطة الراسمال الكليبتوقراطي، وافترضنا لها قبولاً لمبدأ الحوار على أجندة وطنية مشتركة تقبل السبل، والوسائل العقلانية كقوة ناعمة في التفاهم على مشتركات وطنية، وبحيث لا تعمل على الهروب أماماً بإغلاق المنافذ والنوافذ أمام منتقديها ومعارضيها بفرض الإجراءات والأحكام الشمولية القاسية، وإعادة إنتاج الديكتاتوية مجدداً.
إنه، وفى معالم صراع ضارٍ ودقيق يجري من أجل تشكيل السودان القادم أو لا تشكيله بعدم وجوده كما كان، فهنالك خياران ىلا ثالث لهما. فإما الحوار حول الأجندة الوطنية المشتركة بين قوى الثورة وكتلها الحيوية وبين أباطرة السوق السياسى، أو اتخاذ العمل الثورى المدنى المجرب للإطاحة بسلطة الاقتصاد السياسي الريعي، وبحيث تكون المعركة لاستعادة حقوق السكان والمجتمعات السودانية المضطهدة، المستلبة تاريخياً، الممثلة في عبارتها الثورية البليغة ومجتمع ثورتها.
تلك معركة لا بد من خوضها بتدارك وحنكة تضع العربة أمام الحصان هذه المرة بالامتثال لسلطة العقل، والنظرية الثورية الناضجة، وليس مجرد الاكتفاء بالاحتجاج في وجه العدو الذي يذهب، وبمقدمات تحايل لا لبس فيه، تدعو فيه لافتاته إلى المصالحة مع الإسلامويين كحليف استراتيجي احتياطي خفي له، وعودته من الشباك بعد أن تم طرده من الباب، وتلك هى الخيانة البنيوية في حق الثورة، وتضحيات أبنائها وبناتها وشعوبها التى ثارت من أجل كرامة داس عليها السوق السياسي، وعلى رأسه، وفي مقدمته الإسلام السياسي بمختلف واجهاته ومحتوياته الدقيقة المتناسخة.