يبدو أن المؤسسات المنوط بها تحقيق العدالة بعد الثورة عاجزة تماما عن إقامة فسطاط العدل. وترافق مع هذا العجز خيبتنا في المسؤولين المعينيين بعد الثورة في سرعة إنجاز حتى التقارير عن جرائم اغتيالات جماعية حدثت بعد فض الاعتصام في نيرتتي، والجنينة، وبورتسودان، والخرطوم، وكادقلي، هذا فضلا عن جريمة اغتيال رئيس الوزراء نفسه.
من خلال تصريح الأستاذ نبيل أديب الأخير يبدو أن أهل ضحايا فض الاعتصام سينتظرون إلى ما لا نهاية. فبعد عامين يخرج لنا القانوني الضليع بين الفينة والأخرى بتصريحات جوهرها تمطيط الزمن أمامه قبل إنجاز المهمة، وإذا كان التحقيق في هذه الجريمة الواضحة المعالم ربما يأخذ ثلاث أعوام، وجريمة محاولة اغتيال حمدوك عامين، فكم تحتاج النيابة للتحقيق في جرائم دارفور، وبقية مناطق النزاع؟
لقد كونت لجان عديد للتحقيق في جرائم قتل، وآخرها لجنة للتحقيق حول إطلاق عسكر من الجيش النار ضد متظاهرين سلميا ما أدى إلى مقتل شابين. ولكن بعض هذه الجرائم التي مضى عليها عامان لا يعرف الرأي العام شيئا عنها. فالذي يحدث هو أنه بعد كل جريمة قتل عامة يتم تخدير الناس بسرعة تكوين لجنة تحقيق لتقصي الحقائق بالتزامن مع بيانات تنديد لشركاء الانتقال المدنيين، والعسكرين. وما يلبث أن ينسى الناس حتى ندخل في جريمة جديدة نتعامل معها بذات الجدية الخادعة. وهكذا يكون ضعف التحقيق، وغياب التقاضي، ويكون الإفلات من العقاب جوهر أوضاع جرائم واضحة في فترة ما بعد الثورة، وقد توفر لها العديد من الأدلة، والشهود، وقرائن الأحوال.
لا يختلف ثلاثة أشخاص أن هناك تعمدا في عدم تشكيل المحكمة الدستورية، كما أن خيارات الحرية والتغيير للمواقع العدلية جلبت أضعف الناس، فضلا عن ذلك فالمحاكمات التي نشاهدها لقادة النظام تبدو وكأنها مشاهد درامية أكثر من كونها للتقاضي. وأخيرا انسحب منها قضاتها.
قتلة الشهيد الإسلاموي أحمد خير ما يزالون في القفص بعد إدانتهم الواضحة. ولكن يبدو أن هناك رهانا على الزمن، والنسيان، والضغط على الأسرة للقبول بالدية المليونية الدولارية. وهذان المساران يتواصلان ليؤكدان أن عدالة ما بعد الثورة شعار فقط، رغم أنه كلف مئات الآلاف من أرواح الشيب، والشباب.
كما قلنا مراراً وتكراراً فإن تغييب المجلس التشريعي مقصود لمواصلة هذا التخبط المقنن في ملف العدالة فضلا عن مسائل أخرى. وفي هذه الأثناء نشهد احتيالا لبعض المسؤولين لتحوير مفهوم العدالة الانتقالية ليكون في النهاية مصالحة مفروضة على أهل الضحايا في دارفور ومناطق أخرى. وهذا يعني سرقة لسان أهل الدم حتى يشيع جو من الضرورة للعفو، والتمهيد له، أكثر من تحقيق العدالة العدالة، وليست الانتقالية التي تم تحريف معانيها انطلاقا مما حدث في بعض جرائم جنوب افريقيا، ورواندا، ودول أخرى.
المؤسف أنه قبل أن يجف دم الشهداء ينادي بعض السياسيين بالمصالحة مع الإسلاميين. ما الذي تبعثه هذه الدعوات لضحايا الإبادة الجماعية، وفض الاعتصام؟. هل إذا تعرضت أخوات وأمهات هؤلاء المعذبين، والمغتصبين، والمغتالين، سيكون موقف الداعين للمصالحة هو ذات الموقف الآن؟. يبدو أن حساسيتنا الإنسانية تجاه الجرائم المهولة التي ارتكبها نظام الحركة الإسلامية ضعيفة بما يعني أننا لا نتصور الغبن الدفين لأهالي الضحايا. ثم لماذا لا نحترم حق أهل الدم ليقرروا هم وحدهم مصالحة الإسلاميين ما دام كثيرون منا لم يشق فؤادهم لهذا الفقد العزيز لفلذات الكبد الذي ساهم فيه قادة النظام، ورعيته؟
وحتى إذا حاولنا إبداء التسامح الإنساني الراقي لماذا لا نركز أولاً على الدعوة الراقية لتحقيق العدالة بكل ما أوتينا من قوة لوجستية حتى يهجع قلب الأمهات الثكالى، وتنزل دمعات فرح من الآباء، والإخوان، وهم يرون إدانة لقاتل، وحسرة ومذلة في وجه مغتصب، ورد لأرض من ظالم مستوطن، وندم ترصده الكاميرات لشخص عذب معتقلي بيوت الأشباح بالحر في صيف يوليو؟.
ما الذي يعنيه هذا التواطؤ في ملف العدالة في علاج عللنا الوطنية، وعدم البدء بصفحة جديدة لسيادة القانون، والتخلص من عهود من الظلم السياسي، والعدلي، حتى لا تتكرر الجرائم، ما كبر منها، أو صغر؟
إن الحديث عن العدالة الانتقالية ينبغي ألا يكون مركزا على طلب العفو من أهل ضحايا نظام الثلاثين من يونيو قبل الدعوة لوجود مؤسسات نيابية، وعدلية، تباشر في التحقيق الشفاف حول الجرائم المعرفة، وإنزال أقصى العقوبات المستحقة على المدانين، وتبرئة المتهمين.
أما الحديث عن العدالة الانتقالية بمفهوم أن اعتراف المجرمين يفرض بالضرورة مسامحة أهل الضحايا يعزز في جوهره إفلات الضحايا من العقاب، وهناك نماذج محاكمات للعدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا ورواندا ظلمت أهل الدم، وأعفت المجرمين بدعوى التعافي الوطني، وجعلتهم يمدوا ألسنتهم ساخرين، وشامتين.
بكل أمل، وضرورة أخلاقية، ووطنية، لنصرة ضحايا نظام الإخوان المسلمين أدعو أسر شهداء، ومفقودي، فض الاعتصام، وضحايا الإبادة الجماعية في دارفور، والتطهير العرقي في جبال النوبة، وضحايا مجزرة بورتسودان، وكجبار، وقتلى مظاهرات ٢٠١٣، إلى رفع شكاوى لمجلس الأمن، والمنظمات الدولية، لمقاضاة مجرمي النظام، وبقاياه دولياً. ورفع الأمر كله في هذا الشأن للمحكمة الجنائية الدولية لمباشرة التحقيقات في جرائم ما بعد الثورة، وتقديم الجناة للعدالة هو الذي يواسي أهل الضحايا، ويمنع من تكرار هذه الجرائم المستفظعة.
فالنظام العدلي السوداني عاجز، إن لم يكن متواطئا، وكل هذا يحدث بالتزامن مع عدم جدية المسؤولين في قوى الحرية والتغيير، والسيادي، ومجلس الوزراء، في الإسراع إزاء إنجاز العدالة، وهي مثنى الشعار الذي يلي تحقيق الحرية، ويسبق إنجاز السلام.