نواقيس الخطر التي ينبغي أن تُدق في الولاية الشمالية كثيرة، وهذا الخطر لا تبحث عنه حتى تكتشفه، وإنما يمشي بيننا واضحاُ جليّا، وليعذرني بعض المهتمين بالقضايا النوبية، إذا كانت لي قراءات مختلفة لواقع الحال.
أشفقت كثيراً على المعدنين الذين يسيرون تحت هجير الشمس، وهم يلتمسون وسيلة تقلهم إلى مقصدهم، وقد بدا لي أن كثيرين منهم لا وجهة محددة لهم، ولكنهم يسيرون وفق مبدأ “مطرح ما ترسي”.
شباب غضّ تقود خطاه حلم الثراء في صحراء قاسية، وبين حجارة تلفظ لهباً، ولم أجد بينهم من يحمل قارورة ماء، كما لمحت كثيرين يعملون بهمة شديدة في عز الظهر، دون أن يكون بينهم وبين الشمس حجاب.
في ظني أن هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر يجني ثمارها في المقام الأول الأثرياء، الذين يملكون المعدّات، من دون بذل قطرة عرق، ليزداد الغني غنى، ولتعيش الأغلبية وهم الثراء، كما الجائع الذي يحلم بسوق العيش.
وذهبت بخيالي وأنا أرى أفواج المعدنين الشباب على امتداد الطريق من دنقلا إلى سكوت، لأفكر في المهن التي كان يمارسها هؤلاء، لا شك أن بينهم المزارع الذي ترك حواشته، والحرفي الذي فارق حرفته، والطلاب الذين غادروا مقاعد الدراسة، ولا شك أن لكل منهم قصة إنسانية، فهناك من ترك أماً عجوزاً ظلّت تترجاه ليبقى بجانبها، وزوجة وأبناء لا يعرفون متى سيعود، وبماذا؟ وحبيبة تنتظر حفل زفافها، الذي أجله حلم العريس بالثراء، ليأتيها على حصان أبيض، بل قل سيارة فارهة.
وما يحيرني أسلوب تعامل حكومتنا الانتقالية مع هذا النشاط الذي يمكن أن يحقق حلم الجميع بدخل وطني يدعم الاقتصاد، ويسري في أوصاله العافية، التي ستظهر في حياة الناس، وتثمر قمحاً، ومصنعاً، وتحقق أمنيات الشباب في مستقبل آمن لهم، ولأسرهم.
إن “الانتقالية” لم ترهق نفسها في ابتداع سياسات تحفظ أرواح شبابنا، وتؤمن لهم ممارسة التعدين في اطمئنان، وبما لا يعرضهم للاحتيال والاستغلال ممن يملكون المال، ويمارسون السخرة عياناً بياناً.
ويمشي الخطر البيئي بكل أريحية، ولا يحتاج رؤيته إلا إلى النظر في الجو الملبد بالأتربة الملّونة، التي يغطي كثير منها الطريق، ومن يقترب سيجد العمال يتعاملون بلا احترازات مع الزئبق والسيانيد، وهم يضرون أنفسهم، ويهددون كل البيئة المحيطة، التي تعج بالمنازل، وقد فقدت أمنها، وأصبح أهلها يغلقون أبوابها درءاً للمهددات الأمنية من بعض من قذف بهم حلمهم في غياهب، لا يعرفون لها مخرجاً.
والخطر الذي يمارسه بعض المعدنين مع سبق الإصرار والترصد هو سرقة آثارنا في “أنصاص الليالي”، إذ يتفاجأ الأهالي ببيوت غير مأهولة، وقد أصبحت غرفها وحيشانها حفراً بفعل الباحثين عن المومياوات، وما دفن معها من ذهب، وكنوز أخرى.
وقد أخبرني أحدهم في قريتي عمارة أن المبنى الأثري “دفي” قد حُفر أسفله، حتى أصبح مهدداً بالانهيار في أي لحظة، وهذا بلاغ أقدمه عبر هذه المقالة للولاية، والجهات المعنية، والحكومة الاتحادية.
وتطلّ أخطار السيول والفيضانات مع الأمطار التي لم تعهدها المنطقة، ويراها من يقطع طريق الشريان ماثلاُ في تآكل هذا الطريق الذي ازداد ضيقاً على ضيقه، وأصبح انهياره بالمركبات العابرة أمراً وارداً، ولن تتحرك الولاية والجهات المعنية إلا بعد وقوع الكارثة، ليكون تحركهم لا للإنقاذ، بل لرفع الفاتحة على الضحايا، تماماً كما عودنا النظام البائد.
الخطر الآخر ليس ماثلاً بل نمتطي ظهره بحكم إرادتنا، ولكن لا إرادة لنا في إدارته، وأقصد البص الذي نركبه، ليطير بنا سائقه، كما لو كان يسير على بساط الريح، لا على طريق الشريان، الذي أسميته في بداياته “طريق الموت”.
إن هذه الأخطار قد تحفز لحراك شعبي لا يتناسب مع قيم أهل المنطقة وميلهم الطبيعي إلى السلم، والتصرف الحكيم، وسيكون لسان حالهم: “لقد فاض الكيل”.
والسؤال إلى أي حدّ يمكن للتحالف النوبي الذي أعلن عن نفسه أن يسرع الخطى قبل حدوث الانفجار، الذي أراه بات وشيكاً؟ وهل يمكن أن يكون هناك لسان واحد يفصح عن القضايا الحقيقية للمنطقة، من دون أي نعرة عنصرية لا تليق وتراثها، وممارسات أهلها الحضارية؟