حين الحديث عن عبد الكريم، يشرق وجه أخي “محمد عثمان حمادة”، وللذين لا يعرفونه، فهو اديب مثقف سوداني إعلامي كان يقدم “نصف ساعة سياحة” في زمن الأبيض والأسود، يعكف الآن على كتابة “أسماء في ذاكرة الوطن”، ومن بين من وثق لهم، المرحوم عبدالعزيز الكابلي، والد الأستاذ عبدالكريم الكابلي، فإذا سمعك تقول عنه ذلك، يرد عليك بتواضع مرح.. ياخي سيبنا بالله، مثقف بتاع شنو مثقفين انتو ديل، لا يمل حتى هذه الساعة، حكاية عن كابلي حين زاره في برنامجه، وغنى له، فحفظ تلك اللحظة مأثرة من مآثر حياته.
مات بكري محمد سالم، مهندس الراديوهات في السوق الصغير في مدني، في حادث حركة وهو يقود “الفسبا”، كان محباً لكابلي منذ زمان الريكوردر أبو طارة، كان لا يمل سماع وترديد “حبيبة عمري” وأنا لو تصدق، وحتى نشيد التعاون، أحبه حتى يلحق بزمرة الشعوب المستنيرة، العاشقون المتعلقون باستار استنارة الكابلي، أحبه حتى يلحلق ب “كلشر” كاملة، اسمها كابلي، حدثت به كابلي، ففرح وطلب منى أن اوصله به، حتى يسلم عليه، مات قبل أن يفرح فرحة العمر بتلك التحية، التقاه بوكس “اللبن” في اللفة، فلقى حتفه، ومدني لم تتفتح أجفانها بعد.
وحين يعود المغتربون يحملون معهم مثل حرز الحريز، كاسيت مسرح الآرام، ملايكة ساحرة وظباه نافرة، تصدح عبر المسجل الهيتاشي ابو سماعتين، يلتئم جرح سنين الغياب الغائر، كأن لم يكن. وقال لي عثمان حين غني “أمطرت لؤلؤاً”، عليك الله الزول ده نصيح، وحين كنت التقيه، بمنزل أختى في الميرغنية، صاعد في درج اسمنتي ضيق لم يكتمل سياجه ولا بياضه، تتحرك فيه بحذر حتى لا تسقط في الفراغ، يسألني وأنا في طريقي نازل منحدر .. عصمت وصل؟، فأجيبه بنعم، يواصل صعوده حتي يطل عليه عصمت العائد من الكويت، بطوله الشاهق يهم بإشعال سجارة الروثمان.. تعال فوق يا عبد الكريم، فيبتسم وينفث في بئر السلم فيضاً من السعاده بصوته العميق، محدثاً صدىً يتردد بإيقاع ثابت، أسمعه من على البعد وانا اركض لألحق بأصدقاء ينتظرونني في الخارج. حمد الله على السلامة يا عصمت. ناس المدنيين وعلى رأسهم كمال السني، كانوا يعشقونه، وحينما أغترب لثانية في شرق الأحمر، غضبوا، وقال كمال ونحن طلاب لا نفهم مثل هذا الولاء، قال منكراً.. كابلي إغترب؟ السودان معناتو انتهى، فرد عليه “من لا أذكر له اسماً” ياخي هو هنا عايش حالة اغتراب، لا أعلم إن كان أي منهما على قيد الحياة الآن، فما الذي كانا سيقولانه، وصور كابلي يحمل الجواز الأمريكي، تملأ الأسافير؟. ولأهلنا في مروي ومناحيها، مودة وعاطفة تجاه الرجل، جميعهم وحتى “حرم”، التي لم يشيلها اللوري، فشالتها عاطفة شدوه متى ما تركت الساقية النوح، وهجس بها هاجس فأغمضت جفنها وسكن نواح الساقية، هفا به الحنين إليهم قبل سنوات قلائل، فسافر يزور مراتع صباه، يسترجع ذكرى أيام، وهو موظف يافع في المحاكم، فأصابه بسبب الجلوس في الرحلة الطويلة، انزلاق غضروف الظهر، والذي لا زال يعاني منه حتى هذه اللحظة، حدثني هو بذلك ، أجريت له عملية جراحية، لم يستقم بعدها عوده، فاصبح يتوكأ العصا في المشي، وهو الذى كان يمشي مريداً، في زياراته السابقة للعملية الجراحية.
حدثني ضياء العراقي صاحب “مكتبة الحكمة” المشرفة على “كولمبيا بايك”، مرة، عقب ندوة “لمنتدى الحوار العربي في واشنطن”، قرأ فيها كابلي قصيدته “التفاحة”.. ( يا معود اشلون احنا ما نعرف فنان بقامة كابلي.. عيب والله.. خوش آدمي مثقف ومهذب ومرتب، وشاعر كُلش ظَخُم، لعد إحنا ما نندل غير محمد عبد الوهاب والمداح وما ادري اشلون…) وفي مؤتمر لسفراء النوايا الحسنة، طغى نجمه على الممثل “حسين فهمي”، واعترف بذلك أثنين من الدبلوماسيين الأشقاء، كانا يرقبان المناسبة من على البعد.. ( شفت الراقل اللي اسمو كابلي ده بيتكلم بمنتهى المعرفة ازاي؟ حسين باشا اعد يتكلم ساعة عن اول يوم لبس فيه تكسيدو.. ده كلام برضو؟). في أمسيات الشتاء الباردة، ، يصاب باكتئاب من سماء الشتاء الرمادية، أحادثه على الهاتف، فيفرح بسلوى الحوار، يعيد عليك اقصوصة لحن “إني اعتذر”… محمدية قالي.. أقبض أقبض، وفي كل مرة تسمعها بشكل متجدد، لم أسرد عليه علاقتي الحزينة بالأغنية، ففي يوم إذاعتها توفي والدي، وكان الناس يستمعون بثها من الراديو، كنت يافعاً، فالتصقت وارتبطت في عقلي بالحزن، إلى أن تحررت منه في السنوات التي تلت، وتعرفت على الأغنية من البداية، فأضفتها إلى ترسانة الذخيرة الغنائية السودانية، عابرة المدى، ثم يطوف بك على قصة الشولق المنضوم، وبت ملوك النيل، ويحدثك عن ..نور وزهور وعطور.. وكيف داهمته لحظة الوحي وهو في حضرة الامبراطور هيلاسلاسي، أغنياته لا تشبه أغنيات أحد، وليس ادل على ذلك من أغنية شمعة، أغنية فلسفية ” كما يصفها الاستاذ معاوية حسن ياسين في كتابه”.
ثم اتسع الدرج الذي التقيته فيه هذه المرة، حين التقيته في هذه البلاد، في شساع من الأمكنة المضاءة، وشساع من بلاد الدرج الضيق المظلم، حزم من أضواء السيارات المتسارعة على اسفلت ليزبيرغ بايك، و”عصمت” في ذاكرة عبد الكريم، مثله مثل غيره من آلاف من الأصدقاء والبشر الذين يعصون على الحصر، سألني عنه بشوق ونحن نجلس في مقهى “زاكي”، حدثته بأنه استقر في القاهرة وهذا آخر ما انتهى إلى من علم، التقيته تصحبه زوجته الفاضلة، تلتزم الصمت معظم الأحيان، ترافقه في حب وود أصيلين، ومن حينها وأنا اقول للناس، أن الرجل هو التهذيب يمشي على ساقين، وما انتقصت في تقديري هذا ذرة من وصفه، ووصف رقيه، وفي فترات متباعدات، حرصت على أن ألا تفوتني لقاءاته وحفلاته، كنا نتفق على الا يتجاوز الحفل الساعتين، في اقصى تقدير رفقاً بصحته، وكان يجئ متوكأً عصاه، ثم يجلس في مواجهة الحضور، وللبني كجة كلف بالونسة حتى في حضرة الطرب، يضع العود على حجره وينتظر، يراقب الناس بحب من موقعه، حتى تنجلي الجلبة ويهبط الصمت، يعدل العود العدني، ويبدأ في الغناء.. ويقول الزول السمح… إلى اخره، وحبك للناس إلى آخره، في عز الليل إلى أن ينقضي وينفض عنه سامره..
تنقضي الساعتان وهو يغني، ثلاث، أربع ساعات يمضين، وهو كلف بالشدو .. تتملكه السعادة الصوفية النادرة، وتهبط عليه حيوية وقوة، لا تقدر معهما أن تحرمه من أن يغني، يمنعك من أن تشفق عليه، فتستبد بنا أنانية للطرب، فنغض الطرف عن الحنو على صحته، وننهل من رحيق الغناء الذي يخرج من غياهب العناء.ثم تكاثفت العلل وثقل حمل السنون على المناكب جلست أستمع إليه في اليوتيوب، ليلة كاملة، ليلة مثل ليلة الخلاص، الخلاص لنفسي قبل الآخرين، كنت كمن أعيد لنفسي ثقتها فيما تحمله من مشاعر، وقيم، من إرث بنته الأجيال المتعاقبة.. وحينما استبد بي النعاس، سألته في رفق، وأنا أسد غطاء اللابتوب في حزن..من ياترى هداك إلى لحنك الأخير الحزين؟