اليوم الخميس.. وقد كانت لحظة عجيبة لم تسبقها سابقة ولم تعقبها عاقبة عندما وقف محمد أحمد سرور وزميله الأمين برهان عام 1926 يغنيان في حفل تأبين الأديب والناقد (الأمين علي مدني) صاحب الكتاب الجرئ العجيب (أعراس ومآتم)..! ولكن الأمين مات قبل طباعته فقد توفى عن عمر قصير.. والغريب أنه كان يلهج بذكرى الموت طوال حياته القصيرة…!! وأشرف على طباعة كتابه (سليمان كشه)…وشخصية كشّه مثيرة للجدل.. ولكنك لا تستطيع إلا أن تنظر إلى جانب منها يثير الإعجاب؛ فهو تاجر ناجح وبلغة العصر (رجل أعمال نصيح)..كما أنه سياسي وثائر خاض عباب العمل السري..وهو كاتب سيرة وصحفي وناشر وصاحب امتياز وموثق وباحث في التاريخ السياسي والاجتماعي وأديب وشاعر.وهو صاحب مجلة (مرآة السودان) ومؤلف كتاب (سوق الذكريات)… وقصته طوييييلة…!
كانت القصيدة التي تغنى بها سرور وبرهان من كلمات إبراهيم العبادي ومطلعها (بيعْ خزفك دُرر إتغيّب النقّاد.. مات الكان بهدد طه والعقاد.. وين متل الأمين ليهو البيان إنقاد)؟! ولك أن تعجب من تجاوب مطربي وشعراء تلك الفترة مع رحيل ناقد أدبي يكتب بالفصحى، ويقوم كل نقده على مهاجمة الشعر التقليدي..!
وكان الأمين الذي رحل في ريعان شبابه يشن هجوماً كاسحاً و(نقداً مالحاً) على الشعر السائد والشعراء الأعلام حينها، ويسخر من كتاب سعد ميخائيل (شعراء السودان) ويصفه بأنه (مهزلة في مسرح الأدب) ويقول إن ميخائيل يجعلهم جميعهم (وبالكربون) مجيدين وفحولا..وكأنه يحاكي إعلانات الحوانيت التي تقول (جرِّب مرّة ولن تندم)…!!
ويجعل الأمين من الشاعر عبد الله محمد عمر البنا هدفاً رئيساً لنقده اللاذع، وقد بادله شعراء وأدباء تلك الفترة هجوماً بهجوم ووصمه بعضهم بالجنون.. وكان يرد عليهم: أنتم العقلاء المقيّدون وأنا (فعلاً) شاعر حرٌّ وطليق ومجنون…! ويقول في ذلك اعترف بأني مجنون وقد نشرت هذا الاعتراف بنفسي في جريدة الحضارة، وأنا اعمل معلماً وليس لي من المال قرش واحد ولا زوج لي ولا ولد.. ولن يكون لي شيء من ذلك فيما بعد.. والحمد لله..!
وقد كان الأمين دائم الإشارة إلى وحشة الحياة والكآبة واليأس؛ وهي حالة من الرومانسية ومنخوليا العبقرية التي تنتاب عادة الشباب المتطلع الذي يرفض الواقع ويستعجل النهضة والتقدم..! ومع هذا كان الأمين من المدافعين بقوة عن تعليم المرأة والمنددين باضطهادها وظلمها ومنعها من ممارسة حريتها وإثبات ذاتيتها..!!
كان كثيرون من مجايلي الأمين يشيرون إلى تأثره بـشعراء المهجر و(مدرسة الديوان) التي اختطها عباس محمود العقاد وإبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري، وكان مركز هجومها أمير الشعراء احمد شوقي، وقد كان البنا كذلك يحمل صفة أمير شعراء السودان…! وتقول فدوى عبد الرحمن علي طه في كتابها عن أبيها (بين التعليم والسياسة وأربجي) إن ديوان البنا كان موضوعاً لمواجهة بين عبد الرحمن علي طه والأمين على صفحات جريدة الحضارة، فقد كان الأمين يقول إن شعر البنا محض صناعة وتقليد لا روح فيه ولا شعور.. ويتدخل حسين شريف محرر الحضارة لإيقاف المعركة بعد أن رأى أنها قد احتدمت واشتطت…!!
والأمين علي مدني كما يصفه حسن نجيلة في كتابه نقلاً عن معاصريه كان شاباً وسيماً أنيق الهندام عذب الحديث واسع الاطلاع، تخرّج في مدرسة العرفاء بكلية غردون وعمل مدرساً بالمدارس الأولية عام 1920 وكان يعتلي منابر نادي الخريجين ويهاجم بلغة مُصادمة معظم شعراء وأدباء تلك الفترة، وقد عاجلته المنيّة في منتصف عام 1926 في نحو السادسة والعشرين “1900-1926”..
وروّعت العاصمة بوفاة الناقد الأدبي الأول الذي كان ينزع للتجديد ويدعو إلى سودنة أفكار الشعر وينوّه بالشعر الدارج الذي يحمل تعبيرات وأخيلة البيئة السودانية (ووصف صحراء العتمور وغابات الجنوب). ويقول إن السودان ينبغي أن يكون مصدر وحي شعرائه..مثلما أوحت فرنسا إلى روسو وايطاليا إلى دانتي وانجلترا لشكسبير وألمانيا إلى جيتي والأندلس لابن زيدون..وكان الأمين يضرب الأمثلة مُعجباً بذلك النوع من الغناء الذي أصبح يُعرف فيما بعد بـ(أغاني الحقيبة)…!!