منذ نجاحها في إسقاط نظام الحركة الإسلامية تكثفت المحاولات المستميتة لسرقة الثورة. بدأت المحاولات باستلام أبنعوف السلطة ليوم ونصف، وتلته محاولات حميدتي للاستعانة بالإدارات الأهلية، ولقاء البرهان بجيوب حزبية انتهازية ساهمت في تمديد سلطة البشير. وجاء فض الاعتصام، وإيقاف التفاوض مع قوى الحرية والتغيير، ليكون ضربة قاصمة للثورة، والثوار. ومع كل هذه المحاولات نجحت سيرورة الثورة في تكذيب الطامعين في سرقتها.
وفي العامين الماضيين كانت هناك مؤشرات قوية للاحتيال السياسي من خلاله تُقوض أهداف الثورة، ومن ثم نُحمل على التطبع مع ما يجري الآن في المشهد السياسي.
فحتى هذه اللحظة لم يتغير أي شئ جوهري يشيء بأننا وضعنا اللبنات الصحيحة لبناء الدولة الوطنية، ومفارقة النهج السياسي الذي أولد الحروب، والمجاعات، والهجرات المليونية للخارج، وإهدار الموارد، إلخ. فالسياسيون لا يزالون يكررون ذات الخطأ التي بدأ منذ فجر الاستقلال: الإعلاء من قيمة المصلحة الحزبية على حساب مصلحة الوطن.
ما دون ذلك من تحركات لغالب تياراتنا السياسية، والعسكرية، يندرج تحت إطار البحث عن الانفراد بالرأي الأحادي دون التوصل إلى تنازلات عن الاعتداد بالموقف الحزبي. فأحزابنا عند مقاومة النظم الديكتاتورية تتفق على برنامج الحد الأدنى للمقاومة، ولكن يظل التوافق السياسي عند وصولها إلى الحكم معضلة كئيبة.
الآن، ما يزال الغش السياسي، ونقض العهود، مطروحين بشدة لدى الممسكين بطرف من السلطة، مدنيين، وعسكريين. فالوثيقة الدستورية – كما جاء هذا الأسبوع على لسان اثنين من القادة الذين شاركوا في صياغتها – انتهكت، ولا نجد من يحاسب المنتهكين عبر محكمة دستورية. وبخلاف شهادة هذين القائدين السياسيين، وتقديم أحدهما الاعتذار للشعب السوداني، فإن مبادرة حمدوك تقف دليلا على اللولوة السياسية، وخيبة حكومته إزاء إنجاز أهم شعارات الثورة: السلام، والعدل. وضف لهذا تصريح أحد قادة قحت قبل يومين بأن البرهان، وحمدوك، لا يرغبان في تشكيل المجلس التشريعي.
إن فترة عامين كانت كافية لتسريع التفاوض مع عبد الواحد، والحلو، وحسم موضوع المحكمة الجنائية الدولية، والوصول للجناة الذين فضوا الاعتصام. ولكن يبدو أن أطرافا داخل السلطة تسهم في تأخير حسم هذه الملفات المهمة لأجل عرقلة مسار الثورة. أما الملفات الأخرى المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي، وتأهيل الجيش، ودمجه مع الدعم السريع، وإصلاح الخدمة المدنية، وإزالة التمكين بأشكاله كافة فما تزال إمكانية حسمها متعثرة لشيء في نفس يعقوب.
لا المجلس التشريعي، ولا تكوين المفوضيات، ولا المؤتمر الدستوري، ولا قانون الانتخابات، يمثلون أولوية الآن، ولذلك يريدنا اللواء السابق فضل الله برمة ناصر الكنكشة في مبادرة حمدوك، وكأنها طوق النجاة. فقد طالب رئيس الآلية، وفقا لموقع الراكوبة، “بتخطي الجراحات والنظرة الانتقامية، في وقت جزم فيه بأن لجنة التحقيق المستقلة في فض الاعتصام برئاسة المحامي، نبيل أديب، لن تستطيع أن تفصح عن المجرم، داعياً للتنازل من أجل الوطن..”
إذن فلتذهب العدالة إلى النسيان ويكون شعار الثورة التي مهر فيها الشباب روحه، ودمه، وهما راديكالياً.. هكذا فقط يمكن تفسير رأي برمة، وبالتالي ولا مناص لأسر الشهداء من البحث عن القصاص عبر جهات خارج البلاد كالمحكمة الجنائية الدولية، وغيرها. أما ما نستشفه من رئيس آلية مبادرة حمدوك الذي يطالبنا بتجاوز المرارات فهو بعض من مناظر المبادرة التي لم تكشف عن هدفها الموحد بعد. فالأستاذ ياسر عرمان يقول إنها لتوحيد القوى الثورية، وكذا يواليه مقررها الأستاذ طه عثمان. أما رئيسها فيقول إنها لتوحيد “كل السودانيين”، ويرفق تصريحه مطالبا الثائرين تحديدا بتجاوز النظرة الانتقامية، وتخطي الجراحات. والسؤال هو من الذي انتقم حتى الآن ضد الإسلاميين لو كان برمة يستبطنهم في قوله؟
إن هذا الغش السياسي ستبور تجارته لا بد. وقد قلنا من قبل إن في حل القضايا الجوهرية يكمن استقرار البلاد. ومهما حاول السياسيون، والعسكريون، تجيير الثورة لمصالحهم الآنية، والمستقبلية، فإنهم لن يبلغوا المرام، ولعلهم بحاجة لتذكر سقوط كل الاستراتيجيات السياسية التي تسير عكس مصالح الشعب، وآخرها مشروع الحركة الإسلامية.
ثورة ديسمبر التي جاءت كمرحلة قصوى لكل النضالات الثورية التي سبقتها اختصرت مطالبها عبر شعار “حرية، سلام، وعدالة”، ومتى عجز السياسيون الذين يسيطرون على مراكز السلطة المتعددة عن تنفيذ هذه المطالب الضرورية فإن الحاجة لاستئناف حركة التظاهر ضدهم ستجعل الشباب يغطون يوما الشوارع في ظل حالة الإحباط التي تحيط بالناس مما يجري في المشهد السياسي. ولذلك ستظل الثورة في سيرورتها حتى تنجز أهدافها، ولا يستطيع أحد أن ينحرف بها عن مسارها، حتى ولو استطال غشه لعامين، أو ثلاثة.
سيكون من الخطل الكبير لو ظن المسؤولون عن الانتقال أن جذوة الثورة وصلت سدرتها، وأنهم تمكنوا بالانحراف عن أهدافها. فمطالب الشعب الأساسية ستظل مرفوعة حتى تتحقق عاجلا، أم آجلا.