أحيي أسرة الراحل الكبير محمد علي جادين، وقيادة حزب البعث السوداني، وكل الذين ساهموا بالخرطوم ، في تنظيم التأبين، والاحتفاء بحياة الراحل الكبير، المناضل ،الزاهد، المفكر محمد علي جادين، الذي يستحق أن نخلده وأن نحتفي بذكراه، وبالإنتاج السياسي، والفكري الكبير، الذي قدمه لنا جميعاً.
للمرة الأولى، التقيت الأستاذ جادين في سجن كوبر في سنة 84- 85، في ذلك العام أمضيت عاماً في سجن كوبر، وكنت أرى الأستاذ محمد علي جادين، وهو دائم الحركة بين “سجن البحريات”، وأحياناًَ في الزيارة لأقسام أخرى، أو حينما أكون ذاهباً للمستشفى، وهو يرتدي جلابية بيضاء.
أتيحت لي فرصة أن أتبادل معه كلمات بسيطة، وحديثاُ عابراً، حول ما يدور داخل الجامعات، وكان يسألني عما يدور في حركة الطلبة في ذلك الوقت، وقد تعرفت في وقت سابق على البعثيين السودانيين، من خلال “جبهة كفاح الطلبة” منذ المرحلة الثانوية، ثم في الجامعات، وتعرفت عليهم أكثر في سجن كوبر، وفي “البحريات”، حيث كانت توجد معظم قيادة حزب البعث، ونحن كنا في الكرنتينة (ب).
ربطتني صلة وثيقة بالأستاذ محمد سيد أحمد عتيق في ذلك الوقت، وعن طريقه تعرفت على عوالم جبرة إبراهيم جبرة، وعبد الرحمن منيف، لاحقاً تعرفت بصورة أفضل وأعمق على الاستاذ محمد علي جادين في سنوات “التجمع الوطني الديمقراطي”، وهو أقوى تحالف ضم القوى السياسية السودانية ( المعارضة) لمدة 15 عاماً.
أما اللقاء المهم الذي جرى بين البعث السوداني والدكتور جون قرنق، وهو يعد من أهم اللقاءات بين حركة القوميين والحركة الشعبية، فقد شهد نقاشاً فكرياً وسياسياً عميقاً، وكان لقاءاً هاماً، تعرًف فيه الدكتور جون قرنق على جانب مهم من صورة الأستاذ جادين، كمفكر وكقائد سياسي، وعلى صورة البعث السوداني، فأستاذ جادين هو رائد “سودنة البعث”، والفكر القومي ، إذ ربطه بتربة السودان الأمينة، وأخذ خصوصيات السودان في الحسبان. هذه أسطع مساهمات الأستاذ جادين كمفكر، فقد قام بـ”سودنة” فكر البعث وانحاز بشكل واضح “للسودانوية”، وفي “السودانوية” وحدها خلاص السودان، ومساهمات كل المدارس السياسية في السودان.
“السودانوية” تظل حاسمة ومهمة، وقد حمل جادين وزملاؤه زهرة من بستان ( حزب) البعث إلى “السودانوية”، وهي تجعلها أكثر ارتقاءاً من كل المدارس، وتساهم مستقبلاً في توحيد الضمير الوطني السوداني، باعتبارها مساهمة من كل المدارس السياسية السودانية.
الأستاذ جادين اهتم بالجنوب، وبالترجمة للمفكرين الجنوبيين، وبتقديمهم لطيف عريض من المهتمين بالقضايا التي طرحوها في كل السودان، وهو متفرد بذلك، وانفرد بذلك مقارنة بقيادات كل الأحزاب السياسية حينما يتعلق الأمر بالترجمة، والاهتمام بترجمة إنتاج المثقفين الجنوبيين، وحينما يتعلق الأمر بالقوميين العرب السودانيين بالذات، وهي مساهمة ذات معنى وجدوى.
في جولات المفاوضات التي عقدت بين “الحركة الشعبية لتحرير السودان” في السودان، والحكومة السودانية بعد انفصال الجنوب، اهتم الأستاذ جادين بهذه المفاوضات ومستقبل الحركة الشعبية في السودان، وقدمته لوفد الحركة الشعبية، وأجرى نقاشات عميقة بطريقته الهادئة والمهذبة، واهتم بقضايا المنطقتين وبطرح “الحركة الشعبية” للحل الشامل في كل السودان.
استوقفني دوماً زهد الأستاذ جادين وتواضعه الجم، واهتمامه بالفكر والوعي والاستنارة، وهو رائد في هذه القضايا، وكان الاهتمام بالفكر سمة رئيسية من سمات الأستاذ جادين.
الأستاذ جادين تميز بالموقف الإيجابي من حركات الهامش، والانفتاح عليها، والتفاته المبكر من داخل انتمائه للفكر القومي والبعث لم يحجب رؤيته لأهمية حركات الهامش ،وهو والأستاذ عبد العزيز الصاوي من رواد “سودنة البعث “السوداني، وهي مساهمة ذات أهمية فائقة بالنسبة للقوميين، وبالنسبة للسودان، وتساهم في إيجاد قواسم مشتركة لمشروع وطني يُمكن أن يوحد السودانيين.
كما تميز موقفه كذلك من التحالفات بالمرونة، والسعي لإيجاد برنامج الحد الأدنى لتوحيد المعارضة السودانية.
في نفس الليلة التي رحل فيها الأستاذ جادين، اتصلت بأسرته في المستشفى قبل ساعات من رحيله، وكانت صورته طوال ذلك اليوم تأتي إلى ذهني حتى اتصلت بأسرته، ولقد حزنت مثلما حزن الآلاف من السودانيين على رحيل الأستاذ جادين.
رحيل جادين شد السودانيين من مختلف المدارس، فقد كان الأستاذ جادين شخصاً مميزاً.
العزاء مرة أخرى لأسرته وأصدقائه ولـ”البعث” السوداني ولكافة البعثيين، وندعو الله ان يرحمه، وأن تكون منزلته مع الصديقين والشهداء، كما أجدد الشكر والامتنان لكل من ساهم في إحياء ذكرى الأستاذ، والمناضل، الوطني، الكبير، والمفكر محمد علي جادين.