ندفع اليوم ثمن تهاون مجلسي السيادة والوزراء في التعامل مع القضايا المصيريّة للوطن، وفي قمتها قضيّة السلام.
نعم، اتفاقيةّ السلام في جوبا إنجاز كبير، بل أهم إنجاز ما بعد الثورة الباسلة لشعبنا، وقد حققت إلى حد كبير السلام، الذي ينشده الشعب السوداني، بعد حرب دفع الوطن ثمنها غاليًا في الأرواح، وفي انفصال جزء عزيز من الوطن في زمن “الوهم الحضاري”.
لقد مثلت مسارات الشرق والوسط والشمال تغرة كبيرة في هذه الاتفاقيّة، لأن ممثلي هذه المسارات في الاتفاقيّة لا يمثلون هذه المناطق، التي لها قضايا تختلف عن الهاجس الرئيس الممثل في غرب السودان، الذي عانى كثيرًا، وحمل عدد كبير من أبنائه السلاح، وفقد الوطن الأرواح والموارد، وتشكّل واقع فيه كثير من المرارات والمحن.
إنّ هذه المسارات وصفناها في حينها بالقنابل الموقوتة، ها هو الوضع في الشرق يؤكد صحة ما ذهبنا إليه، ورأينا ما يسمى بالمجلس الأعلى لنظارات البجا بقيادة محمد الأمين ترك، وهو يحاول اختطاف شرق السودان، وادعاء تمثيله، ورفعه حجم مطالبه، من خلال إيجاد فوضى يتحدّى بها مجلس السيادة والحكومة، وهو يعلن “إغلاق شرق السودان”، بقفل الطريق القومي الواصل بين ميناء بورتسودان والعاصمة الخرطوم في وجه شاحنات الحكومة والنقل العام، وإغلاق المطارات والموانئ، ومنع أي اتصال بين الشرق وغيره من الولايات.
وأصبح ترك يتحدث بطاووسية واضحة، جعلته يصرح بأنه لن يقبل حتى بنسبة 99 في المئة من قسمة السلطة والثروة في شرق السودان، وهذا ما جعل المحللين يتوقعون إنه يريد حكمًا ذاتيًّا للشرق، يكون على رأسه، وعنقه يشرئب إلى ما حظي به مني أركو مناوي، وقد جمع بينهما خدمة النظام السابق، والاستفادة منه، بل تذهب التحليلات إلى أن ترك ما زال أداة في يد فلول النظام التي تحركه من وراء ستار، ومعها جهات تضمر شرًا للسودان.
إن ترك وهو ناظر الهدندوة اختطف بداية مجلس نظارات البجا، وهو لا يمثل غير جزء مهما كان حجمه من مكونات الشرق، بل إن أهله من “الجميلاب” شكّلوا نظارة مستقلّة بقيادة الناظر محمد طاهر محمد حسين، ووظف ترك هذا المجلس لبث العنصريّة في الشرق، وتصنيف مكوّناته على حسب الهوى، بل محاربة كثير من أبناء الوطن في أرزاقهم، والتضييق عليهم، بادعاء أنهم ليسوا سودانيين.
إن غضّ الطرف عن هذه الممارسة البغيضة التي تسببت في موجات العنف في الشرق من أسباب تمادي ترك، ومن يقفون خلفه سواء بنظرة قبلية بحتة، أو بحسابات سياسية تتمثل في تقويض الفترة الانتقالية، وإحراج الحكومة، وخلق بؤرة صراع لا تنطفئ جذوتها، ما دامت تغذى بالعنصريّة البغيضة التي كانت سببًا فيما آل إليه الوطن من اقتسام وانفصال.
ولا أدل على استهداف تقويض الفترة الانتقاليّة من رفض ترك ومن يلفون لفه لجنة إزالة التمكين، والمطالبة بحلّها، وهذا يعني أن لا شيء يمضي في هذه المنطقة إلا ما ترضاه هذه الزمرة المتمرّدة.
إنّ فرض هيبة الدولة – مهما كان الثمن- هو السبيل الوحيد لردع المغامرين في أي مكان من أرض السودان، حتى لا يتوهم أي مغامر أن الحريّة التي طالب بها الثوار تعني الفوضى، والارتداد إلى عصبية القبيلة، كأننا نعود القهقري إلى الجاهلية، حيث يتحكّم قانون الغاب.