(1)
رحل بالأمس في لندن انسان عالي الهمّة، ومثقف من فنارات الاستنارة، ومفكر سوداني مهم من (الفئة القليلة) في عالم الفكر الملهة والمستنيرة، التي أولت قضايا الاستنارة والفكر والثقافة والديموقراطية والأجندة الجديدة جل طاقتها.
(2)
عكف محمد بشير أحمد الشهير بعبد العزيز حسين الصاوي، بدأبٍ ونشاط وفاعلية في محاولاته التي لم تنقطع حتى لحظة رحيله لنحت مشروعٍ للاستنارة و(الديموقراطية المستحيلة) كما أسماها كمدخلٍ لبلادٍ جديدة، ومنظورٍ مختلف ومغاير، كان الصاوي يفكر خارج السياق وخارج المألوف، وظلّ مفكراً ملتزماً واضح المعالم والرؤية والصورة والفكرة.
تحدث الصاوي عمّا ينقصنا، ويقضّ مضاجع الديموقراطية، وما غاب وما انقطع من حديث الاستنارة الذي شغل باله على مدى سنوات من البحث والقراءة والاطلاع والكتابة، قضّاها عند محراب الفكر وصومعة الاستنارة.
(3)
داومت على التواصل معه وحرصت على الالتقاء به متى ما أتيتً إلى لندن، وزرته في منزله أو صومعته في (أيرليز كورت) في قلب العاصمة البريطانية، وقد اهتمّ الأستاذ الصاوي بمشروع السودان الجديد وتجربة الحركة الشعبية، وقُبيل رحيله كتب في أغسطس الماضي مقالته الموسومة والقصيرة عن (تاريخانية دور جون قرنق) وفي مراسلاتنا حول تلك المقالة كنتُ قد طلبت منه ترجمتها للغة الإنجليزية حتى تصل إلى أوسع مجموعةٍ من المثقفين الجنوبيين، وقد فعل، وعلّق في مقدمة إحدى رسائله التي بعثها إليّ معقباً على ملاحظاتي حول مقالته بـ: (إن موقع جون قرنق في تاريخ السودان رئيسي، لأنه ينتمي إلى جنوب البلاد).
وحينما أرسلت له مؤخراً مقالة الدكتور أحمد إبراهيم أبوشوك حول (دار الوثائق القومية السودانية: تحديات الحاضر وآفاق المستقبل) ردّ فوراً متحدثاً عن الأهمية الاستثنائية للموضوع، وحاجته لتمويل، وأعطى بعض الأفكار كدأبه.
(4)
عبد العزيز حسين الصاوي مسيرةٌ طويلةٌ من الانتماء والالتزام بدأها مع القوميين العرب، ورحلته التاريخية مع الأستاذ محمد علي جادين، وعمله الجاد والكبير في سودنة الفكر القومي مع الوقائع والموضوعات التاريخية والمعاصرة لبلادنا، ولكنه انداح وطوّر مسيرته بالانفتاح على التيارات الفكرية والسياسة للتقدم والاستنارة، وكان عاموداً مضيئاً في قلب العاصمة البريطانية وفي منتديات السودانيين التي ستفتقده ومشاركاته الواسعة على الفضاء الإسفيري، حيث ظلّ إشعاعه وضوئه يصل إلى السودان وإلى بُلدانٍ أخرى، وقد كان حضوره في منتديات لندن يجمل أمسيات الفكر ونهارات المعرفة.
(5)
لكم أحزنني رحيل عبد العزيز حسين الصاوي في البلاد البعيدة ولقد ذكر لي الأستاذ شريف ياسين صديقه المُقرّب إنه قد طلب بأن يُدفن بلندن حيث أقام سنواتٍ طويلة، كإنسانٍ لا يودّ أن يزيد من متاعب الآخرين، حتى عندما يتعلق الأمر بأداء واجباتهم.
وتمنيت لو عاد ودُفِن بهذه البلاد التي أحبّها، مع احترامي لوصيته، ولقد كانت هذه البلاد مدار انشغاله في صومعة الفكر والثقافة والسياسة التي حواها منزله، لقد كان عبد العزيز حسين الصاوي في دائرة وبؤرة المثقفين العضويين بلا شك.
ألا رحم الله عبد العزيز حسين الصاوي وأدخله في أمجاد الأعالي، ولتنمو حول قبره الرياحين والياسمين وأشجار البنفسج وقليل من الأبنوس ونخلاتُ الشمال على ضفاف النيل المشرأبة للضياء والتي تحمل ثمار الاستنارة، وليكُن محروساً بأبادماك، إله المعرفة عند ممالكنا القديمة.
الخرطوم
4 أكتوبر 2021م