قد تبدو الحياة المعاصرة في هذه الأثناء أمام صمت مفتوح و منعرج حاد لإفساح لغة مضادة ينبغي عليها إجادتها لتنجو بنفسها من هلاك آزف. هنا مأزق الانسان المعاصر الذي يتشقق بتفاعلات جائحة الكورونا ومكابدات تنمرها المجتمعي والاقتصادي بما تهيؤه من بيئة مناسبة لحدوث انهيارات متوالية، فلا ينشط الإنسان سوى في تخفيض عروض حيوية سلطته وتجبره ورفع عقيرته كما كان يفعل من قبل ذلك.
أياً كانت التكتيكات أو الجبريات من وراء موقف الإنسان، فإن اصابة كوفيد ١٩ للدول الصلبة القواعد، المتينة في هياكل تطورها الاقتصادي وما تتخذه من تدابير وقائية وتعويضات مالية تقي ضد الإفلاس المطلق لبعض الشرائح، فان ما تدفعه من فواتير مكلفة في فقدان الأرواح قد بات يعني وبدون شك أن العالم الأقل تحضراً و منعة من حيث النظم الاقتصادية والصحية غير قادر على مجاراة مستحقات الجائحة رغم الحزم التحفيزية التي قدمتها بعض البلدان لمواطنيها جراء اتباع سياسات الإغلاق والتباعد الاجتماعي وإغلاق المدارس وتخفيض التفاعل الفيزيائي بين العاملين بسبب السياسات الاجتماعية الرخوة، ورسوخ ثقافة اجتماعية ضاربة الجذور في اعتمادها على الاقتصاد والاجتماع الفيزيائيين. لذلك فقد اختارت تلك المجتمعات مواجهة الجائحة بعدم الاكتراث و التقليل من خطورتها كسياسة تملا تعبيرها من اقتصاديات مريضة فاقدة للنظم التشغيلية غير معتمدة على مستخلصات الثورة المعلوماتية والتكنولوجية وأهداف بناء مجتمعات المعرفة والعلم.
أزمة إنسان المجتمعات النامية او تحت التنمية تتغذي بصفة نشطة ودائمة من مرضعات الثقافة ورعاتها من مؤسسات اجتماعية مؤيدة بصفة إضافية لتتماهى معها، فيصبح الإنسان تحت قصف ثنائي متلازم ومتواطئ يعقد عليه مهمة الخروج من قفص الجائحة اللعينة، وعلاقاتها المشتبكة مع حقائق البناء الحضاري الهش وتراجع التربية المدينية العاطلة عن الاعتماد على نتائج العلم واتخاذ ذهنيته كاداة لمعالجة شؤون حياته. فالتلاميذ والتلميذات الذين تتعرض مدارسهم للاغلاق والعاملين في القطاع العام الخاص لا يمنعهم الاجراء الاحترازي من ممارسة التقارب الاجتماعي في بيوتهم واحيائهم وممارسة حياتهم بالنحو الاعتيادي في السراء والضراء فلا تقل اعدادهم بنقاط التسوق او ملأهم لصحون المركبات العامة والتلاصق على مقاعدها. بل صرنا نشهد على صدور الاحتجاجات الفئوية ضد سياسات الغلاق بدعوى الضرر والتضرر الاقتصادي منها.
فاذا كانت كوفيد 19 قد قلصت الفروق الهائلة بين المجتمعات في تشابه النهايات و مقادير فداحة الصدمات بالتاثيرات التى انتجتها على مختلف الاصعدة فانها لم توفر اي درجة من التقارب او التشابه الهيكلى بين دول تلك المجتمعات في مستويات الخدمة الاقتصادية للدولة وممارسة الغطاءات المالية لهم.
الدول الرأسمالية المتقدمة في مضمار الأنظمة الصحية وفي غمار مكافحتها للجائحة والحفاظ على حياة من تبقوا من مواطنيها حملت على عاتقها مهمة البحث عن سبل الحفاظ على الحياة بتكاليف مضاعفة بالمقارنة مع ما سبق من خدمات كانت تقدمها للمجتمعات الأقل نمواً بتوفيرها اللقاحات و وصفات الحماية الضرورية دون ان تستطيع إطلاق القول إنها فعلت ذلك بالمجان أو لأجل سواد عيوننا بانفصال عن تصاعد هاجس تدوير رأس المال ومراكمته . فالرأسمال وجد نفسه أمام مهمة إنقاذ حياة انسانه العالمي الممثل في كل سكان الكرة الأرضية ومنهم سكان المواقع الأضعف تطوراً حتى يعطي نفسه فرصاً جديدة للحفاظ على قوى الإنتاج ومصادر الطاقات للاستثمار، وإعادته في الأزمة الطاحنة بتفعيل مؤسسات البحث الطبية وفتح المنافسة بين كوادرها للوصول إلى نتائج فعالة ظاهرها إسكات أوجاع الإنسان وباطنها تحقيق الأرباح غير المسبوقة.
إزاء مشهد كذلك تعيد الراسماليات العتيقة ترميم أبنيتها لاكتساب عافية جديدة وحصانة مستقبلية في مقابل مجتمعات تفقد كل شيء بما يصيبها من دوار كاختبار لا تقوى على ملحقاته السياسية. فالدوار في بلدان كبلداننا لا يخطف الدولة بل يصيب الثقافات الاجتماعية مباشرة ويضعها أمام خيار واحد فقط في أن تستجيب للتغيير او تغرق في الزوال المتدرج.
هنا تتأكد خيبة استثمار الدولة العالمثالثية التاريخية النمطية في الإنسان والتنمية البشرية التي تركتها لعوامل الصدف والتبعية في التطور المتعاكس مع متطلبات ثقافة التجديد والابتكار وخاصة في المحركات الاقتصادية و نظم الاقتصاد والتعليم والاعلام البالية التي خرجت علينا بها من فكرة وثقافة السياسة المؤسسية التي ترى في مصالح بقائها الأولوية القصوى على مصالح البشر من مواطنين. فنتائج البحث العلمي والرصد تكاد ا تقول حتى الان شكراً لكوفيد ١٩ التي عرت الدولة الفاشلة والعالقة وجردتها من الاحجبة الكثيفة التي عملت على تغطية عوراتها بها طيلة ما بعد الاستقلالات السياسية.
مع اطلالة كل صباح تتفاقم أخطاء السياسة والسياسات بعدم ايلائها الاهتمام المطلوب للتنمية البشرية. فبدلاً من مساعدة البشر على بناء الوعى بالعلم ونتائجه لمجابهة تعقيدات الحياة والانتصار على اختباراتها الوعرة المرعبة ذهبت الإدارات السياسية في الأنظمة السياسية الشمولية والديمقراطية معاً ببلد كالسودان في مهمة استغلال الوعى، وتزييفه بمدخلات و مخرجات السياسة غير المنتبهة لتنمية إنسانها الذي عثرت فيه كأنموذج وموضوع للتدمير فقط بدلا عن التعمير.
هكذا يبدو المشهد الواقعي للحياة المعاصرة ببلدان أفريقيا والعالم العربي وبلد كبلدنا السودان كأنه مشهد المتاهة العظمى الذي لا يضع حسابات الزمان والمكان وعلاقات التطور المشتركة بينهما في محتوى الوعى القائد فلا تضحى إداراتها بالتالي بجزء من المستقبل لصالح تضخيم ارصدتها البائسة، بل بكل المستقبل الذي تستهدفه حياة أجيال جديدة ثارت ضد الأنظمة السياسية لا لتغيير قادتها ورؤوسها، ولكن لتأسيس الحياة الجديدة الجديرة بالعيش.
مؤسسة الدولة وفي تحالفها الخفي المتواطئ مع الراسماليات المتوحشة تستولى على حقوق دافع الضرائب وتستبيحها بعدم إنشاء الكوابح الصحية والمعرفية العلمية اللازمة حتى يتحصن ضد الكوارث وامراض الزمان فتتحول الى نباتات ظلية تحمي انفسها بالتطفل وطلب الإعانات من الراسمالية المؤسسة التي تختطف وفي واقع الحال الدولة التابعة دون ان تتبع الأخيرة نظم الرعاية الصحية وإعادة المستقطع من ضرائب لمواطنيها بالنحو العادل النزيه. وكمثال فان خدمات الدولة العالمثالثية، ومنها دولتنا لا تعيد للمعاشيين كشريحة معرضة للموت المباشر جراء الجائحة حقوقها من مستقطعات الضرائب التاريخية التي جمعتها منها طيلة فترة أدائها لأعمالها وخدماتها الجليلة للدولة بواقع القيمة الحقيقية المستحقة. يدفع العاملون الاجراء طيلة مراحل وفترات عملهم اموالا تصبح بلا قيمة عند استرادهم لها في مرحلة المعاش بحكم تدهور قيمة العملات الوطنية وتجريد الاقتصاد من طاقاته وتحكماته. والدولة وعبر ادمانها العمل على تطبيقات الاستغلال البشع لمواطنيها تحافظ على الوعى الاجتماعي المنخفض بسبب عدم التطوير الثقافي وترقية مهارات العيش وسبله لتبقي على الاقتصادات المتخلفة في الارياف والمدن وبحيث تعتمد اكثر على الانشطة الطفيلية بدلا عن النظم الانتاجية.
إذا كانت سياسات الإغلاق وبرامجه قد اصابت عائداً إيجابياً في المجتمعات المتحضرة؛ فإن سبب ذلك قد تلخص في توافر الاحتياطيات المالية المنقذة لتقاصر او انخفاض دورات العمل الاقتصادي الطارئة، وتفعيل التأمينات الاجتماعية والصحية لتغطية العجز الضارب بعجلة الإنتاج. اما في بلدان الإنتاج التجاري الطفيلين فإن الدولة لا تستطيع السيطرة على العمالة والأسواق والعاملين بفلكها بحكم تسيد نظام الاقتصاد غير المنتج زراعياً وصناعياً بالنحو الذي يسمح بتغطية تكاليف العجز عند حلول الكوارث.
إن دولتنا لما بعد الاستقلال السياسي إلى الآن أمام مفترق طرق، وعليها إعمال بحثها النقدي في مكوناتها بغرض إعادة تربية وتكوين العقل السياسي النازع بمؤسساته لأخذ السلطة واستثمارها لأغراضه المغلقة على مصالحه الضيقة، وليست مصالح الأغلبية من المواطنين، وذلك بالمزيد من الانفتاح نحو التطور، وليس إلغائه كما تفيد معظم النتائج المستخلصة من واقع خدمتها الداعمة لفرضية موتها بمكر السياسة على العلم، و حملة راياته من شرائح العمل بالذهنية العلمية، وليست السياسية التجارية التي تدمن حساب الربح والخسارة دون سواه.
واذا ما كانت العصب وليس النخب قد قادت إدارة الدولة وأحكمت السيطرة على مقودها عبر وصفات وثقافة سياسية استهلاكية رائجة أنتجتها مدارس ومناهج إدارة السياسة الكولونيالية، ومن ثم الحزبية الوطنية دون تغذيات نقدية كافية من مكتسبات العقل والعقلانية، فان ذلك ما شجع وعى المنسوب الاجتماعي الشرائحي المتخلف على إدارتها بنحو من اللامعقول في حقبة حكم الإنقاذ فأطاح بقوانين الإدارة و نظم الرعاية الأخلاقية المستحقة للمواطن والمواطنين في مجالات الحياة حتى اورثنا واقعا مملا قد يبدو في عيون البعض كواقع غير قابل للتغيير احيانا بسبب كثرة وتكاثر الخروقات التي تعرض لها بسبب السياسات الفاشلة.
wagdik@yahoo.com