ثمة أشخاص لا يجود الزمان بمثلهم، يظلون غرة في جبين التاريخ وقلادة في جيد الأوطان وعلامة في مجال الفنون والآداب واللحن والتأثير العابر للبلدان والجماعات. وثمة لحظات من الزمن لا تغادر الذاكرة ، تظل عالقة محفورة عميقًا نستعيدها بقدرما نتمثلها. وعندما نفتقد هؤلاء نقف أمام الذكريات صامتين من هول الحدث. وهكذا يصبح الرحيل مرًا حين يغيب أمثال عبد الرحمن عبد الله (ود بارا) فرحمه من الله عليه.
أطل عبد الرحمن عبد الله في سماء الفن السوداني في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، فكان (زي بريق) خريف كردفاني وضاء ومبشر وواعد. وفي زمن قياسي عبر بمفردة بادية شمال كردفان من هامش منسي إلى قلب الثقافة السودانيه.
وكان كأنه في سباق مع الزمن. فهل كان يرى بعين البصيرة قصر العمر وقرب الرحيل فسعى أن ينجز مالم يستطعه الأوائل؟ أيا كان فقد حرق (ود بارا)، المراحل ليصبح من العلامات الفنيه الفارقة في بلادنا، ومن الإشراقات المبهرة في فضاء الفن السوداني.
ولا يساورني شك بأن إرثه الفني سيتجدد مع الزمان وسيتمر صدى صوته الشجي تردده بادية شمال كردفان ويردده كل وجدان.في الرحلة التي بدأت في منتصف السبعينات وختمت برحيله المر في التاسع من شهر أكتوبر 2021م ، ظل عبد الرحمن عبد الله حاضراً ومؤثراً لهذا فتح آفاقاً جديدة للإبداع رغم وطأة المرض وآلامه المبرحة.
وبرحيله ستفتقد الساحة الثقافية والفنية في بلادنا واحدا من أهم أعمدتها، وأبرز رجالاتها الذين اسهموا بجهد متصل في إعادة الحياة للتراث الوطني للسودان وخصوصا بعث مفردات العامية الكردفانيه الأصيله، التي عبر عنها وعبر بها من البداوة إلى الحضارة ومن الهامش للأصالة. وخلال رحلته القصيرة أثرى (البلوم) الوجدان والحركة الفنية والأدبية وأغنى المفردة المغناة.
وحسبك التأمل في هذه المفردات:نصابحك لا نخاف انسانوننسي الماضي والاحزاننلاقي القمري لابس الطوقيفر جنحيهو زي توبايصفق للزهور نشوانأوحدثوني وقالوا سلم —- احمل الشوق للمعلمأوجدي الريله أبوكزيمه تعال نتمشى في الغيمة — غيمة ريد تصب في رهيد سواقيهو خضر ديما…مشاهد بها أدرك عبد الرحمن أن (الفن ليس عبثا) كما قال الإمام الصادق، وحتماً ليس سعيًا خلف المال لذلك وهب حياته له.
وظل زاهدًا في المنافع الآنيه والبحث عن (العداد) وابتعد تماما عن السقوط واللهث وراء الثراء الذي وفرته (الصالات)وإحياء الليالي للقتلة والسفاحين. عندما جاء للمملكة السعودية ومكث فيها لبعض الوقت، أقمنا له في رابطة شمال كردفان حفلا خيريا للعلاج. وعندما عاد غالب ظروفه الصحيه. ليشكر ويشارك ويحكى عن رحلته الفنيه التي بدأت مع خاله الحبر حاج محمد ، وترحاله في بادية دار حامد وعن دراسته بمدرسة المقنص الأولية وخور جادين وتنقله شرقا وغربا.
كانت الأيدي تقاطع الحكي الثر بالتصفيق. وختم حديثه بالمدح النبوي تلبيه لطلب السفير أحمد التجاني. وعندما غادر المسرح اصر ان ينتقل بين الصفوف ليسلم. وكان لسان حاله أنه راهن على هؤلاء فهم أهله ومحبيه. وأنه رفض اللهث وراء المال الذي غير سلوك الفنان ولون مواقفه الوطنيه والإنسانيه.
لقد رفض عبد الرحمن عبد الله دائماً الركض خلف اقتناص الفرص ورفض الإنتهازيه لأنه أدرك أن الزبد سيذهب جفاء ويمكث ما ينفع الناس. ورغم التحديات الحياتيه لم يهتز له موقف وظل يجود بألحانه ويبحث في أصولها ويدقق في سلالمها الموسيقيه وينهل بدأب مدهش من معين لا ينضب من تراث الباديه السودانيه فضلا عن اعتكاف طويل ومديد في محراب الشعر السوداني الأصيل.
ورغم اعتلال صحة عبد الرحمن لعقد من الزمان إلا أنه ظل شديد الاهتمام بخدمة التراث ولم يغادر أولوياته. لا عجب ان استخرج من بحره اللؤلؤ الثمين وبدونه كان سيظل تراث كردفان مثل أهرامات البجراويه التي تنتظر من ينقب في جمالياتها دون جدوى. وعبر سلسلة من الألحان والمؤلفات الموسيقيه حفر (البلوم) اسمه بجدارة في سجل الخالدين فغنى وأطرب وأصبح عطاؤه محطة هامة لكل دارس ولكل منقب في الثقافة والفنون والآداب وخصوصا في آداب بادية كردفان الشماليه. ومن يمر بما ترك (البلوم) سيروي ظمأه من بئر لطالما روت العطشى ومنحت كل منقب وأي باحث ما يريد وزيادة.رحم الله الأخ العزيز عبد الرحمن عبد الله ود بارا، وأسكنه أعلى الجنات مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، وتعازينا لأسرته ولأهله ولمحبيه (إنا لله وإنا إليه راجعون).