تسمع من يقول لك في التعليق على قرارات لجنة تفكيك التمكين الأخيرة التي اتصلت بالقضائية إن القضائية أولي بإزالة التمكين في عقر دارها. ويظن ذلك فصل الخطاب في استقلال القضاء. ولا يخطر له أبداً أن يسأل إن كانت القضائية أبداً أزالت بنفسها عوار نفسها منذ الاستقلال. ومتى سأل القائل نفسه هذا السؤال، وتحرى الإجابة سيجد أن تحرير القضائية من نفسها إما جاءها من ثورة نقابية داخلها أو من إجراءات من خارجها. ولن يجدها يومياً تنهض (إلا استثناء) بما قال عن إزالة عيوبها بصورة مؤسسية، أومن الباطن، كما تهيأ له.
ولا أعرف من لم يهن القضائية مثل الرئيس نميري وحسب، بل سعى للتخلص منها لإنشاء قضائية موازية وهي شاهدة. فمن باب إهانتها إطلاق لسانه عن خلق القضاة، وفصلهم. فجعل نفسه على رأس مجلسها غير مسبوق، وعين رئيس القضاء عضواً بالمكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي كما عين مساعديه أعضاء بلجنته المركزية. علاوة على افتعاله “غضبة للعدل” (rage for justice) “خرد” بها القضائية المعلومة واصطنع بدلاً عنها قضائية العدالة الناجزة الإسلامية (١٩٨٣) سيئة السمعة. وقال د. إبراهيم الزين عنها إن نميري إنما أراد بها الكيد للقضائية لا الإسلام كما زعم.
جعل نميري من تراكم القضايا الملحوظ في المحاكم في السبعينات سبباً لغضبته للعدل. ففي اجتماع مع القضاة في ١٩٧٤م، قال لهم إن العدل البطيء إنكار للعدل. ووعظهم بالامتناع عن السلوك المفارق للأعراف بما يشين سمعتهم. فشمر القضاة عن سواعدهم، وأنشأوا مكتباً للبحوث والإحصاء يرصد كسب القضاة في النظر في القضايا، والإعلان عن نجاحهم في تشطيب القضايا المتراكمة بطرفهم.
أما أصرح ما جاء من نميري عن خطته للقضائية الموازية، فكان في خطاب له في الفاشر في يونيو ١٩٨٣. فعّرف الناس بقضائيته الموازية على بينة من مآخذه على القضائية الأصل التي وصفها بأنها خاملة وفاسدة. ففصل ٤٤ من القضاة ليطهرها من قضاة وصفهم بالفساد، والمقامرة، والسكر، والرشوة.
وتربح هنا من الشعور العام في وسط غمار الناس حيال الصفوة في الدولة. وهي طريقته في ارباك الخصم بنزع ثقته بنفسه. فبعث له القضاة، لا القضائية، رسالة اعترفوا فيها بالتقصير وعذرهم بأنهم رفعوا لرئيس القضاء مذكرة حوت طرقاً لترفيع الأداء في المؤسسة. ولا سميع منه ولا مجيب مما دفعهم للمطالبة بإزاحته. وتحركت الطاقة النقابية لمواجهة استفزاز نميري فاستقال كثير من القضاة حتى عودة القضاة المفصولين، وتعديل مواد في قانون القضائية ١٩٧٦ الذي جعل نميري رئيساً لمجلسها. فلم يهز ذلك شعرة في نميري وأمر بأن يحل محل القضاة المستقيلين كل من يأنسون في كفاءته وعلمه.
مع تصعير نميري خده للقضاة إلا أنه انحنى قليلا، واجتمع بهم والمحامين في منتصف ١٩٨٣. وتواثق معهم لقيام اللجنة الوطنية لوضع أسس العدالة الناجزة. ولكنه كان رتب الأمر ليحارب القضائية بطريقة أخرى. فواصل الطرق على وجوب العدالة الناجزة طرقاً مفهوماً منه أنه كيد للقضائية القائمة.
وكشف عن مكره بإجزال العطاء للقضاة في مرتباتهم لكي يحرقهم في نظر العامة. بل ورفع عن المحامين عبء دفع الضرائب. وقال منصور خالد إنه أراد من ذلك أن يفهم الناس أن أكبر هم القضاة هو جيبهم لا العدل.
ظل نميري يدعو لإصلاح القضائية بلسانه بينما يعمل بجدية لقضائيته الثانية. فأعلن في ٩ سبتمبر قضائيته الموازية بقوانينها الإسلامية، المعروفة بقوانين سبتمبر ١٩٨٣، لتستبدل بليل الإرث القانوني السوداني لثمانين سنة.
وعاش السودان منذ ١٩٨٣ حتى ١٩٨٥ بقضائيتين. قضائية العدالة الناجزة التي استولت على المشهد العدلي والقضائية التقليدية التي توارت في الظل و”الخمسة فوق الاتنين”. ولولا الطاقة النقابية للقضاة على علاتها لكانت تلك الفترة في تاريخ المؤسسة عاراً خالصاً.
فأي قول عن سعة القضائية لإصلاح نفسها بنفسها حديث خرافة.
وسنرى في حلقة أخرى لماذا استهان نميري بالقضائية لأنها لم تحسن الاستجابة لدعوته لتوحيد القسم المدني والقسم الشرعي في قضائية موحدة مما أضطره لفرض توحيدهما والقضاة مجرجرين أقدامهم.