يجيب الروائي السوداني الكبير الطيب صالح على سؤال: عن تعريفه للكتابة. يجيب: (الكتابة تعويض عن الإحساس بالفقد !)
كنت أتعلل حتى وقت قريب بهذا التعريف البليغ للكتابة كلما داهمتني الهموم، وجلست لأرسم بعض الشخبطات.. شعراً أو نثراً. لكني عرفت منذ يومين أنّ فقد أمثالك يا عبد الرحمن عبد الله الحاج لا تعوضه الكتابة. منذ يومين إثنين وأنا أجلس في الصباح الباكر لأكتب.. فتنفر الحروف..وأعود في المساء. أجلس لساعة أوة أكثر لأكتب عزائي فيك لقرائي- لبنات وأبناء حبيبك الشعب. لكني سرعان ما أكتشف أنّ رص الحروف بكاءاً عليك لن يطفيء اللوعة يا صديقاً ما التقينا إلا وكان الحديث في نبض كردفان الغرا والحداء في حسانها وأوديتها وكثبانها قاسمنا المشترك في الحديث.
*رحل إلى الدار التي لا ترقى إليها الأباطيل يا سادتي أحد أميز الأصوات والألحان لأكثر من أربعة عقود. لست بصدد الحديث عن عبد الرحمن عبد الله المطرب .. فذاك شأن يتحدت فيه سدنة الموسيقى والغناء. أنا لست جديراً بالحديث عن ذلك إلا بقدر ما يثرثر الهواة في الفنون لأنّ فرصة أتيحت لهم ليجلسوا إلى أساطين المغنى ، أو أن تشاء المقادير لتجمعه بهم.
* جاءوا إلى راديو وتلفزيون ام درمان ليعرضوا بضاعتهم.. الزمان: أخريات 1968- إن لم تخنِّي الذاكرة. صدح صديق عباس وإبراهيم موسى أبا وعبد القادر سالم وعبد الله الكردفاني وام بلينا السنوسي. فلفتوا الأنظار . واضح أنّ إيقاع المردوم والجراري كانا جديدين على الذائقة الفنية السودانية التي ما تزال تتلقى “الوصفات” الثقافية الجاهزة من المركز. هزّت (اللوري حلّ بي) و (رويحتي الهناك شاردة ) وأغنيات أخرى عرش الثابت في الأغنية التي اعتادها الذوق السماعي منذ أمد طويل. لم يصنفوها كأغنية سودانية. لأفندية الإذاعة والتلفزيون والصحافة الفنية مخاوفهم ورؤيتهم الراجفة لكل وافد من أطراف السودان البعيدة. حدث ذلك مع ملك الطمبور النعام آدم ومحمد احمد عوض وأولاد كرم الله من شمال البلاد ومع يوسف فتاكي وثنائي راجا في الجنوب. ظلت تلك الأصوات والألحان النادرة موسومة بالجهة التي جاءت منها.. ولم تكن اللونية الجديدة الوافدة من غرب السودان لتدرج في قاموس أغنية الوسط التي سميت بالأغنية السودانية ، فاطلقوا عليها (الأغنية الكردفانية) !!
* لم يصل عبد الرحمن عبد الله مع رفاقه إلى حوش الإذاعة والتلفزيون بام درمان في نفس اللوري القادم من كردفان. لكنّ حنجرته الذهبية شقت طريقها عنوة إلى الإذاعة التي كان يديرها دفة إدارتها آنذاك إذاعيون ماهرون ومنصفون : محمد خوجلي صالحين ومحمود أبو العزائم ومحمد سليمان (جراب الحاوي) المثقف الذي يتحدث إلى جانب العربية الفرنسية والألمانية بشكل حسن. كانوا مهنيين ومثقفين. في هذا المناخ الموائم دخلت حنجرة عبد الرحمن عبد الله استوديوهات الإذاعة بأعذب وأروع الألحان لشعراء رائعين من كردفان : محمد حامد آدم : رويحة الهاوي يا مجافي / البلوم الطاير بفوقي/ ضابط السجن وأخريات. وعبد الله الكاظم: شقيش قول ليا مروح.. محمد احمد مريخا: يا شوقي يا دفاق.. عبد الرحمن عوض الكريم: يا اب جمال زينة وشعراء آخرين من كردفان.
إنني أذكر تلك المناسبة التي دعانا إلى تناول وجبة الغداء فيها الأستاذ الإذاعي اسماعيل الحسن بابكر بمناسبة وصول عبد الرحمن عبدالله إلى العاصمة. كنا جلوساً مع آخرين: عبد القادر سالم وعبد الرحمن عبدالله وعبدالله الكاظم وشخصي حين وصل مدير الإذاعة آنذاك محمد خوجلي صالحين ، وبطريقته المرحة والجادة في ذات الوقت رمى مظروفاً بين يدي عبد الرحمن ثم قصد لينال حظه من الطعام وهو يقول: مبروك يا خينا .. ترقيتك فناناً للدرجة الأولى. قمنا إليه جميعاً – يتقدمنا صديقه عبد القادر سالم مهنئين ومباركين. كان – حسب ما علمنا – أول مطرب سوداني يجاز صوته وهو على بعد مئات الكيلومترات من المركز الذي لا يعطيك اعترافاً إلا إذا حضرت ذليلاً أمامه! خرج عبد الرحمن عبدالله على تلك القاعدة. فرض على لجنة الألحان والنصوص أن تنحني لصوته النادر وألحانه الباهرة.
* ما لي تحدثت عن الفنان عبد الرحمن عبد الله وأنا أبكيه الآن أخاً وإنساناً وصديقاً ؟ كان رقيقاً كالنسمة. حاضر النكتة. جمعتنا ستة أيام في الإمارات : هو وعبد القادر سالم وكاتب هذه السطور. احتفى أبناء كردفان وعلى رأسهم رجل الأعمال الأخ محمد اسماعيل( أرجو ألا أكون قد أخطأت في الاسم) – احتفى ابناء كردفان بعودة عبد الرحمن آنذاك من المجر معافى من الغضروف الذي ألزمه السرير نحو 4 سنوات أو أكثر. كانت أحلى أمسيات عاشتها الجالية السودانية آنذاك. لكن على الصعيد الشخصي لم نضحك عبدالرحمن وعبد القادر وشخصي مثلما ضحكنا تلك الأيام. لم أر شخصاً يجيد المحاكاة بصوته للكبير والصغير مثلما يفعل عبد الرحمن عبد الله. يحكي لنا مغامراتهم وهم فنانون صغار غير معروفين في بارا والأبيض. يحكي عن المعاناة. قال لي ذات مرة: خالك أدبني أدب المدايح عشان صوتي يطلع من محاكاة وردي – كان يعني مران حبال الصوت الأسبوعي الذي يدربه عليه الموسيقار جمعة جابر ليبعده عن محاكاة ملك الطرب محمد عثمان وردي. قال لي: يطلب مني الأستاذ جمعة جابر أن أغني وهو ساهم وكأنه لا يسمعني..ثم يصيح بي فجأة: أقيف!! بس هنا.. ما عايز وردي في الحتة دي بالذات ! وريني شخصيتك في المقطع دا !
* كانت رحلة طويلة وشاقة يا أبا مصعب. ظللنا نتمسك بالأمل أن يكون خبر وفاتك كاذباً. جاءني الخبر الشؤم في الواحدة صباحا من صديقي الصدوق الأستاذ عبد الماجد محمد عبد الماجد من لندن.. أرسل يعزيني. لكني ظللت متمسكاً بالأمل. كنت كما قال أبو الطيب المتنبي:
طوى الجزيرة حتى جاءني نبأ ** فزعت منه بآمالي إلى الكذب
جلست حتى ظهر اليوم الثاني.. فإذا بأخي وصديقي الدكتور عبد القادر سالم يتصل بي معزياً. ذهب الفنان والأخ الإنسان عبد الرحمن عبد الله (بلوم الغرب) إلى القاهرة لإجراء عملية في الغضروف، فإذا بداء الكرونة يكتب نهاية قصة اللحن الكبير والحنجرة الطروب.
تقبلك الله قبولاً حسناً يا حفيد الأولياء والصالحين، وجعل البركة في ذريتك يا إنساناً بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
فضيلي جمّاع- الخرطوم
11 أكتوبر