منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة ليس هناك حديث في الاوساط السودانية سوى المواجهة بين العسكريين والمدنيين، وتداعيات التصريحات والاجواء المشحونة التي يغذيها النظام المباد وتوابعه بقوة، حتى وصلت الازمة إنهيار الثقة بين العسكريين والمدنيين، وظهر إتجاه قوي برفض إقحام العسكر في الشأن السياسي ومراجعة الشراكة معهم بعد إن تبين خطل إشراك العسكر، في المقابل برز مطلب حل الحكومة الحالية وتشكيل حكومة جديدة بمواصفات عسكرية، هذه التوترات والتصعيد في كل الاتجاهات أخرها حظر قيادات بالدولة من السفر يشير بوضوح بأن الأحداث تسير الي إنسداد الأفق، ولن تفلح معها مبادرات الحل السياسي في ظل التعنت وحرب التصريحات وإستخدام أدوات الدولة في الصراع فهناك حقائق لا يمكن تجاوزها للخروج من مأزق العقلية الانقلابية وهدر الطاقة السياسية يمكن إجمالها في الأتي:
- إنزعاج العسكر من الحديث عن إصلاح وإعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية وتحول الأمر الي صراع مع المكون المدني هروب من الإستحقاق الدستوري، والحديث عن حل الحكومة يعد تجاوز أخر. فلا مناص من الإحتكام الي الوثيقة الدستورية فعلا وليس قولا، وتجريم ونبذ الإنقلاب بأي شكل وتحت اي مسوغ، وترسيخ قناعة أن الزمن لن يعود للوراء فزمن الانقلابات ولى.
- إذا كانت الدولة العميقة القوة المعاكسة للثورة ومناصرة للعسكرة والحالمة بقطع الطريق أمام الانتقال وإستعادة الحكم الشمولي، فإن الشعب السوداني العميق هو القوة القادرة على إنجاح التحول الديمقراطي والمحافظة على مكاسب الثورة وإستكمال الانتقال.
- مهما تقاطعت مصالح الفاعلين في المشهد الراهن داخلياً وخارجياً وتعارضت فلا سبيل للخروج من حالة الإستعصاء سوى التواضع على حوار سياسي، فلا سبيل لإلغاء الاخر في بلد مثل السودان، ولا جدوى من الإستقواء بإسرائيل أو غيرها.
- رعاية الإنقسام في الحاضنة السياسية للحكومة وتقوية طرف على الأخر، وتسويق الإنقسامات السياسية بأنها هي السبب في هذا المأزق لن يجدي فتيلا، لان إنقسامات الحاضنة لن تكون مسوغ مقنعاً للإنقلابات كما في بلدان مشابهة، لأن الحاضنة جزء من قاعدة الإنتقال التي تضم طيف واسع من الشعب السوداني، قالت الكاتبة الألمانية هانا أرندت فى كتابها أصول الشمولية: (إن أهم ما ترنو إليه الأنظمة الشمولية هو بث الرعب والخوف فى نفوس الجماهير من أجل إحكام سيطرتها عليهم وفى سبيل ذلك فإنه تعمد إلى توظيف فئات الشعب ضد بعضها البعض وتصبح الوشاية إحدى الأدوات الرئيسية لضرب هذه الجماهير من جهة، وضمان عدم قيامها معا من جهة أخرى).
- ملء الشوارع والساحات بالتظاهرات والمواكب وسيلة مقدسة للتعبير عن إرادة ورغبة شعبية وتأتي عند لحظة تاريخية وبإجماع شعبي حول قضية عادلة كما حدث في ساحة الاعتصام، أما الحشود المشرية والمكرية والتي تستقطب بغرض زعزعة إرادة الشعب وإغتيال أحلامه سيكون مصيرها الفشل لا محالة. فالحقيقة المجردة أن المد الثوري لم يكن هدفه التخلص من البشير فحسب وإنما من الطغيان والعقلية الانقلابية والإستبدادية لصالح الحرية والديمقراطية.
- الفترة الإنتقالية قائمة على شراكة (عسكرية ومدنية) ومحكومة بإعلان سياسي ووثيقة دستورية تحدد إلتزامات معينة لكل طرف، فالجانب العسكري ملزم بقضايا الامن والدفاع، والجانب المدني ملزم بقضايا الانتقال، والطرفين يكملان بعضهما البعض وفق النصوص الدستورية، لتأسيس الدولة المدنية الديمقراطية، أما التوهم بأن هذه الشراكة هو مدخل إستمرار ممارسة العسكريين للسياسة وفتحت الشهية للطمع في السلطة وإقصاء السياسيين فليس لهذا إسم غير إنقلاب.
- الحاضنة السياسية عند وحدتها ووضوح رؤيتها وتماسها ووجود قيادات مرجعية حكيمة إستطاعت إن تحقق إجماع على أجندة الإنتقال ومقاربة العبور، ومهما إدعى أي طرف بأنه يستطيع أن ينخرط في مقاربة ومعادلة سياسية مع المكون العسكري ويقصي المكونات المدنية الاخرى فسيكون قد ضحى بنفسه أولاً وبأجندة الانتقال الديمقراطي ثانياً، وعلى القيادات السياسية تحمل مسئوليتها التاريخية في إعلاه أجندة الوطن الواسعة بدلاً عن الاجندة الحزبية الضيقة، سلام على مقام الحبيب الامام الصادق المهدي فهو يستحق عدة قباب (قبة للحكمة السودانية، وقبة للديمقراطية والرشد السياسي، وقبة لحراسة مشارع الحق والإلتزام الاخلاقي والقيمي).
- رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك أطلق مبادرة الطريق الي الأمام التي وضع فيها يده على مكامن الخلل، تمثل أجندة لحوار سياسي عميق بين الفرقاء بغرض حماية الانتقال وتحسين البلاد من عبث الانقلابات وفوضى الانقسامات، الإستجابة الي مبادرته يمثل أرضية مشتركة لإنتقال سياسي لا يكلف البلاد الدمار والخراب.
على ضوء هذه الحقائق، هناك خياران لا ثالث لهما، إما التفاوض والحوار المباشر والتوافق على ميثاق شرف حماية الفترة الانتقالية وتجديد الالتزام بالوثيقة الدستورية وأسس الشراكة وإحترام مؤسسات الدولة أو الإحتكام لطرف ثالثMediator في ظل إنعدام الثقة الماثل لصياغة إتفاق ملزم بإحترام الوثيقة الدستورية.
وفي كلتا الحالتين فلن تعود عقارب الساعة للوراء ولن يبقى الوضع علي ما هو عليه، فلا مجال للمغامرات الانقلابية وهناك متسع لتوسعة قاعدة الانتقال لكي قوى الثورة لبناء دولة مدنية ديمقراطية.