بين المعلوم والمجهول، وعلى مسافة واحدة، يتموضع الإعلام المتذاكي وترسو سفنه وأساطيله قبالة سواحل الحقيقة، مكتفيا من الحقيقة بوجبة يومية صلاحيتها لا تتجاوز يوما واحدا يطبخها تارة بنفسه وتارة يكلف من يطبخها على طريقة الأسر المنتجة، فيقدمها ويوهم الرأي العام بالشبع من كثرة التجشؤ الناتج عن المشروبات الإعلامية الغازية على حساب القيمة الغذائية من الحقيقة.
يستند هذا الإعلام إلى ما يقارب 1% من الحقيقة، ومن هنا لا تستغرق مدة صلاحيته أكثر من 24 ساعة، فليس مطلوبا أن يصمد ما يقدمه هذا النوع من الإعلام أكثر من 24 ساعة، لأن غدا وجبة أخرى يتم إعدادها وترويجها كل يوم اعتمادا واستنادا إلى أربع فرضيات: 1) الذاكرة القصيرة للرأي العام، 2) الاعتماد بنسبة تقارب 99% على دراما الشيطنة، 3) الرهان على توتير وتخويف الرأي العام إلى حد كبير، 4) توظيف التكرار المكثف بدرجة عالية خلال اليوم الواحد استثمارا للذاكرة القصيرة.
يعمل هذا الإعلام ويتكاثر في نطاقات واسعة تمتد وتتمدد ما بين المجهول والمعلوم في مختلف المجالات. هذا الإعلام ليس معنيا بتوسيع مساحة المعلوم وتعزيزها أو تقليص مساحة المجهول، إنما المستهدف دائما توظف القليل من المعلوم والكثير من المجهول في منطقة ثالثة خاصة بهذا الإعلام تعوم في البحر والفضاء.
تعد جائحة كورونا نموذجا مثاليا لتجسيد هذا النوع من الإعلام وتوضيح طريقة عمله، حيث يتم نسج القصص التي تمزج ما بين الحقيقة والمجهول، وما بين السياسة والاقتصاد والصحة والتغذية وحقوق الإنسان وما بين الرأسمالية والاشتراكية وما بين المحاور والتحالفات، ما بين العالمية والإقليمية والمحلية، ما بين أمريكا والصين، ما بين إيران وإسرائيل، ما بين المتطرفين والعنصريين، ما بين الحكومات والمعارضات، ولذلك قد تنتهي جائحة كورونا من الوجود تماما، لكن هذا النوع سيظل يوظف الجائحة ويستثمرها إلى أبعد الحدود.
خطورة هذا النوع من الإعلام ليس بتموضعه الدائم والثابت بين المجهول والمعلوم فحسب، إنما خطورته ناتجة عن دوره المتنامي مباشرة وغير مباشرة في صناعة السياسات الخارجية للدول ورسم العلاقات الخارجية بين الدول حول الكثير من القضايا، بما يتجاوز الدور المتعارف للإعلام، وبما يتجاوز الدور التقليدي للمؤسسات الدبلوماسية ما تسبب في توتير وتشنج الكثير من العلاقات بين الدول والأكثر توتيرا ما بين الشعوب، بشكل متعمد ومقصود تارة وغير متعمد تارة أخرى. فهذا الإعلام المتحرر من المعايير المهنية في أغلب الحالات يقف وراء الكثير من الأزمات في العلاقات العربية العربية شعوبا ودولا، مما يجعل ترميم العلاقات العربية العربية والعودة بها إلى وضعها السوي والطبيعي شبه مستحيل، دون الأخذ بالاعتبار هذا النوع الطارئ من الإعلام المحسوب على الإعلام وهو في الحقيقة لا يعدو كونه وجبات غير صحية ومشروبات إعلامية غازية تحسسك بالشبع والتخمة، بينما أنت في الحقيقة أكثر من جائع للحقيقة والمعلومات الحقيقية.