يبدو صحيحاً ما ذهب إليه بعض المحللين بأن محاولة الانقلاب التي وصفها المسؤولون الأمنيون وعلى رأسهم رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان بالفاشلة ما هي إلا بالون اختبار، ووسيلة للامتنان بأن القوات المسلحة هي حامية البلاد، ومن دونها لا أمن ولا استقرار.
وجاء الهجوم المباغت على ما قيل إنها جماعات إرهابية في داخل حي جبرة المكتظ بالسكان لتأكيد افتراضية أن المحاولة الانقلابية مدبرة، وقد كان لأصحاب هذا التحليل مسوغهم، وهو أن هذه الجماعات لم تظهر فجأة متزامنة مع الانقلاب المزعوم، إلا لتأكيد الحاجة الماسة إلى الأمن، وإلى حامّ له.
وسبق هذين الحدثين الانفلاتات الأمنيّة، التي عانت منها الخرطوم والمدن الأخرى، وأبرزها ظاهرة “تسعة طويلة”، ثم أطلت مشكلة الشرق، التي تضخمت بوتيرة متسارعة، حتى وصل الحال برئيس مجلس نظارات البجا محمد الأمين ترك إلى إغلاق الطريق القومي والميناء والمطار، حتى وصل إلى محاولة فرض شروطه غير المنطقية، ومنها المطالبة بحلّ الحكومة وحل لجنة إزالة التمكين، بل بلغ الأمر مداه، حين طالب بتفويض الجيش، مؤكداً ثقته بالبرهان، الذي طالب أيضاً بحل الحكومة، في تناغم يدل على ما بين الطرفين من تنسيق عالٍ.
وقد أعطى المكون العسكري ممثلاً في رئيس مجلس السيادة ونائبه الشرعية لناظر الهدندوة السيادة بادعاء أن أزمة الشرق سياسيّة، ولا مجال للتدخل الأمني، ليدعم هذا الاتجاه الفريق شمس الدين كباشي الذي ذهب إلى ترك على رأس وفد رسمي، ولم يكن من نتائج اجتماعاته معه غير فتح الطريق لتصدير نفط الجنوب عبر ميناء البشائر، والإعلان أن اعتصام أهل الشرق مبرر، وسلمي.
وتزامنت مع هذه الأحداث –كذلك- تمثيلية اجتماع ما عرف بمجموعة الإصلاح لقوى الحرية والتغيير التي حشدت أطفال الخلاوي، وفلول النظام، والواجهات السياسيّة المهترئة التي كانت جزءًا من النظام البائد، لتعاود الكرة مرة أخرى فيما عرف بالتوقيع على “ميثاق التوافق الوطني”، يوم السبت 16 أكتوبر مع تسيير مظاهرات وصلت إلى القصر الجمهوري، وقال المتحدثون باسم هذا الجسم الجديد إنهم “صابنها”، ذلك التعبير المستلف من اعتصام الثوار في ساحة القيادة العامة.
ويواصل المكون العسكري في مجلس السيادة تأكيد أنه سيحمي مكتسبات الثورة، حتى الوصول إلى الانتخابات.
القراءة السريعة للأحداث يؤكد الإصرار على الانقلاب، وعلى عودة النظام البائد بوجه جديد يتمثّل في الحاضنة المصطنعة، التي ستؤدي دور الكومبارس، لمصلحة حكم عسكري صرف، سيكون أكثر بطشًا وأكثر استخدامًا لمفسدات الحركة السياسيّة من رشاوى، وشراء الولاءات، وتبدت الملامح في تفويج الطرق الصوفية، وعامة الناس ممن لا علم له بحقائق الأمور، أو أولئك الذين في حاجة إلى ما يسد رمقهم، وذلك في مقابل الإغراء بالمال، الذي تدفق في مواكب الأمس، وجرى توثيقه بالصورة والصوت، ليذكرنا هذا المشهد بمحاولة الانقلاب في عز وهج الثورة، حين جرى حشد الطرق الصوفيّة بأرض المعارض، ثم جرى طردها شر طردة، بعد فشل المحاولة، وإحباط الثوار لها.
كل الشواهد تؤكد أننا أمام تحدٍّ كبير، في ظلّ تحشيد الأجهزة الأمنيّة ضد المكون المدني، على مدى أيام كثيرة، وبخطاب تحريضي لا يراعي مصلحة الوطن، ثم دعم تمرد الشرق الذي خلط فيه اللاعبون بتعمد بين حق أصيل، وهدف غير نبيل.
صاحب القول الفصل لإعادة الأمور إلى نصابها هو الشارع العريض، الذي يجمع الثوار الحقيقيين المصرين على التغيير، والوصول إلى النهايات السعيدة لثورتهم، ومعه بالدعم المجتمع الدولي الذي يصرّ على الانتقال الديمقراطي، ويعبر عنه بعدد من الوسائل، إلا أن التعويل يجب أن يكون على الشارع، الذي يقف خلف رئيس الوزراء د.عبدالله حمدوك، الذي كسب في ظل الأزمة الخانقة أرضية جديدة، وخسر العسكر، لأنهم انتصروا لذواتهم، وأعمتهم طموحاتهم، وكذلك مخاوفهم عن رؤية الحقيقة، وهي أن هناك خيارين لا ثالث لهما، إما أن تمضي الفترة الانتقاليّة لنهاياتها المقرّرة، وإما لا سودان، ولا مجال لأوهامهم.