قال الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي (1909-1933):
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر
ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
وقال الشاعر السوداني الدبلوماسي محمد المكي إبراهيم عن ثورة أكتوبر 1964:
من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر
من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدة والسير
من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياة القادمة
جيل العطاء المستجيش ضراوة ومصادمة
المستميت على المبادئ مؤمناً
المشرئب إلى النجوم لينتقي صور السماء لشعبنا
جيلي أنا..
أبدأ اليوم بهذه المقدمة الشعرية من شاعرين عظيمين عن قيم ومعاني النضال نحو الحياة الكريمة.
قصيدة محمد المكي إبراهيم كتبها بعد ثورة أكتوبر 1964 المجيدة، التي أزالت نظاماً عسكرياً عاتياً كان الإنقلاب العسكري الأول في تاريخ السودان وذلك في 17 نوفمبر 1958، الذي وأد الديمقراطية الوليدة أي بعد عامين فقط من الإستقلال عام 1956 والحكم الديمقراطي.
ثورة أكتوبر 1964 تم اختطافها وقتلها بواسطة الأحزاب التقليدية الطائفية والحركة الإسلامية الوليدة آنذاك، أقامت تلك الأحزاب حكماً ديمقراطياً هشاً بعد انتخابات فطيرة متعجلة عام 1965، بعد أقل من أربعة أعوام أدت إلى وقوع الإنقلاب العسكري الثاني 25 مايو 1969.
الثورة الشعبية الثانية في أبريل 1985 أزاحت الحكم العسكري الثاني وأيضاً تكالبت على الثورة نفس الأحزاب الطائفية، وأجرت إنتخابات متعجلة عام 1986 كانت نتائجها لصالح الأحزاب الطائفية الإثنين والجبهة الإسلامية.
فشل الحكم الديمقراطي البرلماني الثالث في إدارة الدولة مما أدى إلى إنقلاب الإنقاذ الإسلامي في يونيو 1989 أي بعد حوالي ثلاث سنوات فقط من حكم برلماني ديمقراطي.
قراءة عميقة لأسباب فشل وقصر الحكم البرلماني الديمقراطي ووأده بإنقلاب عسكري يجعلنا نفكر في أسباب هذا الفشل.. السبب الوحيد والقاسم المشترك هو أن الحكم الديمقراطي البرلماني الناجح له مقومات وبيئة صالحة قوامها ارتفاع درجة الوعي وانحسار الأمية- نسبة الأمية الضامنة لنجاح النظام البرلماني يجب أن لا تزيد عن 20% من السكان- ودرجة الوعي ترتفع بانحسار الولاء الطائفي الأعمى والولاء الآيدولوجي المتعصب المتشدد.
لكل ما تقدم يجب التفكير الجاد العميق خارج الصندوق والإعتراف بأن بيئة الديمقراطية البرلمانية الصالحة لم تتوفر بعد في السودان. أكرر هنا ما ذكرته سابقاً يجب التفكير السليم في كيف يُحكم السودان بعد فشل النظام البرلماني ثلاث مرات، وإعادة تدوير دائرة الإنقلابات العسكرية الخبيثة. ذكرت أن النظام الرئاسي في ظل برلمان قوي ناضج هو الحل الأمثل لحكم السودان، حتى نخرج إلى الأبد من تجريب المجرب ونظرية أنشتاين عندما قال: (الجنون هو أن تكرر الخطأ نفسه وتتوقع نتائج مغايرة).
عندما اقترحت النظام الرئاسي انتقدني بعض الأصدقاء قائلين أن الحكم الرئاسي أيضاً فشل في السودان ضاربين المثل بحكم نميري والبشير، ولكن أقول لهم على رسلكم إن النظامين الرئاسيين لنميري والبشير لم يأتيا من حكم ديمقراطي وانتخابات حرة نزيهة- كانا نسخاً مشوهاً للديمقراطية- كانا كما قال العالم الراحل التجاني الماحي في مناظرة علمية في جامعة الخرطوم عام 1965 كان يمثل أحد طرفيها بينما كان طرفها الآخر الراحل د. طه بعشر والذي توصل إلى خلاصة كاد أن يفوز بها على د. التجاني الماحي، ولكن رد عليه د. التجاني بالإنجليزية قائلاً: (You have drawn Sufficient Conclusion From Insufficient Premises) (لقد توصلت إلى خلاصة كافية من معطيات ناقصة وغير كافية)، وانتصر د. التجاني الماحي في المناظرة بهذه الجملة العميقة. لذلك أقول لمن انتقد مقترحي أنكم توصلتم إلى نتائج كافية من معطيات ناقصة وغيرصحيحة، والآن نحن في ظرف ومعطيات ديمقراطية مختلفة تماماً عن نظامي نميري والبشير الشائهين.
بعد خروج الملايين في مواكب هادرة غير مسبوقة الخميس الماضي 21 أكتوبر وفي درجة وعي عالية، كانت مطالبهم واحدة متمثلة في حماية الفترة الإنتقالية والتحول الديمقراطي الكامل في انتخابات عامة حرة نزيهة في نهاية الفترة الإنتقالية وليس قبلها بأي حال من الأحوال، لأن أي انتخابات مبكرة تعيد الدائرة الخبيثة في حكم السودان.
توحد صف الجموع المليونية بعد شتات وخلافات كبيرة في العامين السابقين يشير إلى أن الأنسب لها هو الحكم الرئاسي، لأن هذه الجموع في أي انتخابات برلمانية في ظل التوجهات الحالية الطائفية والعقائدية والجهوية لن تمنح أحزاب وتكتلات هذه الملايين أي مقعد برلماني (تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا)، نفس هذا التوحد الذي تم بالإتفاق على هدف واحد يمكن أن يتوحد في شخص واحد تدفع به انتخابات رئاسية ديمقراطية.
الحكم الرئاسي الذي أدعو له يلازمه ويتكامل معه برلمان قوي منتخب ودستور يحدد سلطات وصلاحيات رئيس الجمهورية، ويضمن عدم جنوحه وتخطي خطوط حمراء يحددها الدستور، أو حتى سحب الثقة منه وإعادة انتخابات رئاسية أخرى. النظام الرئاسي بجانب أنه يتيح للتجمعات والكتل المتعددة التوافق على شخص ويمنحها قوة جماهيرية مؤثرة، حتى وإن لم يفز مرشحهم وتكون بذلك معارضة ناضجة قوية تثبت دعائم الحكم الديمقراطي المستدام في السودان.. في المقابل يمكن أن يمنح النظام الرئاسي الفرصة لزعيم يمثل الجزء الآخر في المجتمع السوداني المتمثل في الطائفية التقليدية والإدارات الأهلية الجغرافية في كل السودان، وهي مؤثرة وتحظى بعضوية جماهيرية وأيضاً مليونية.
خلاصة حديثي أن هذه الجموع المليونية التي خرجت يوم الخميس 21 أكتوبر، لن يكون لها أي تأثير أو موقع في نظام حكم برلماني تسيطر عليه الأحزاب الطائفية والآيدولوجية المتوالية معها والإدارات الأهلية التي ما زالت لها الأثر الكبير في الحياة السودانية العامة.