كان من مسوِّغات عبدالفتاح البرهان لانقلابه الخوف على الوحدة الوطنية من دعاة العنصرية والجهويَّة، بينما الحقائق تشير إلى أنَّ المكوِّن العسكري خان أمانة المسؤولية، وبدأ منذ اليوم الأول في زرع الفتنة واللعب على عنصر القبيلة، فحشد المجلس العسكري زعماء الإدارات الأهلية، واستباح معرض الخرطوم الدولي، وجاء بالأسِرَّة، ليرابط هؤلاء الزعماء حتى تنتهي مهمتهم بتفويض المجلس العسكري في مواجهة قوى الحرية والتغيير، وعندما قال الشارع كلمته في مليونية 30 يونيو 2019م، طرد المجلس العسكري العُمَد والنُّظَّار، بعد فشل مهمتهم.
ومنذ ذلك التاريخ، والعسكر يستدعون (القبلية) في كلِّ مواجهة مع القوى الحديثة الممثلة في الأحزاب، وتجسَّد ذلك جليًّا في الصراع الذي سبق الانقلاب، حين أعطى المكوِّن العسكري الضوء الأخضر للناظر محمد الأمين ترك لِيُغلقَ الشرقَ؛ طريقًا، وميناءً، ومطارًا، من أجل خنق الشعب، وإثارة حنقه على الحكومة الانتقالية، كما حشد رجال الإدارات الأهليّة حول القصر في مشهد غير حضاري، لإيهام العالم بأنَّ هناك تأييدًا له.
لكنَّ هؤلاء لم يقدِّموا إلا صور امتهان الكرامة الإنسانية، بشراء الذمم الذي تبدَّى في توزيع الغذاء، والمال، على عينك يا تاجر، وقد تكدَّست عربات الدعم السريع بالمال الذي رآه القاصي والداني بقوَّة عينٍ يُحسدون عليها.
كما حشد المكوِّن العسكري أراذلَ القوم من الفلول والمتطلِّعين إلى المال والجاه والسلطة في قاعة الصداقة، وجاؤوا بأطفال الخلاوي مكدَّسين في العربات، وهذا ما يمثِّل جريمةً واضحةً ضد الإنسانية، واستغلالاً لحاجة الناس وعوزهم، وإخراجًا لتلك الخلاوي عن مراميها السامية، وشارك في هذه الجريمة بعض رجالات الطرق الصوفيّة الانتهازيين، في استمرارٍ لممارسات النظام البائد الذي استنجد بهم البشير في آخر أيامه، فرقص في حولياتهم، في محاولة لإقناع العالم بأنَّ هناك جمهورًا يلتفُّ حوله.
إذن مَنْ يثيرُ الفتنةَ هو من يُحلُّ حاضناتٍ قبليَّةً ودينيّةً مستغلاً الأراذل فيها، محلَّ الأحزاب التي تمثِّل الحاضنة الرئيسة للعمل السياسي المدني، والتي توافق عليها العالم المتحضِّر.
ويمضي البرهان إلى أبعد من ذلك، بتسميته نفسَه وصيًّا على العمل السياسي، ليقرِّرَ إقصاء مَنْ يشاء، وحجب السلطة التنفيذية عن السياسيين، وتحويلهم إلى متفرجين، والاستعانة بالأقاليم؛ أي بـ(القبلية) مرَّةً أخرى في تشكيل الحكومة والهياكل.
لقد جمع البرهان الإعلاميين في مؤتمر صحفي، ثم هددهم بالحبس والتنكيل، إذا حادوا عن الطريق الذي سيرسمه لهم، وهو يفعل ذلك باسم الوطن، الذي جاء لحمايته.
كما فعل البشير، لا يرى البرهان الجماهير الهادرة في الشوارع، ويطمئن نفسه بأنها ستعود إلى رشدها، بما يدَّعيه من تنوير بالحقائق، وغاب عنه -كما هو حال كل الديكتاتوريين – أنَّ هذا الشارع واعٍ، وهو يعرف من تجاربه وجوه الطغاة، وقادر على أن يزن بميزان من ذهب ما يتفوَّهون به من معسول الكلام.
إنّ ما قاله سفير السودان في واشنطن نورالدين ساتي هو الحقيقة بعينها، إذ قال بدبلوماسية مفرطة إنَّ بعض المخاوف قادت العسكر إلى هذا الانقلاب، ولم يفصح أكثر، ولكن عندما تستهدف قرارات البرهان لجنة إزالة التمكين، ولجنة فضّ الاعتصام، ينبغي علينا استنتاج مصادر تلك المخاوف التي أشار إليها ساتي.
إنَّ لجنة إزالة التمكين عرفت أكثر مما ينبغي عن شبكات المصالح التي تربط كثيرًا من المتورِّطين في الانقلاب بالفلول، وبالرأسمالية الفاسدة، وعن الشركات العسكريّة والمتحكِّمين فيها، لهذا ينبغي أن تُباد كلُّ المعلومات والوثائق، ويُضرَب على يد وجدي صالح وشلَّته من المتجرِّئين.
كما أنَّ لجنة تقصِّي الحقائق في فضّ اعتصام القيادة جمعت من المعلومات ما يدين مَنْ نفذوه من النافذين، مع أنَّ اعترافاتهم مبثوثة في وسائل الإعلام، ومثبتة، لكن أن يأتي الاتهام رسميًّا، فإنه يعني أنهم سيرافقون رئيسهم البشير إلى لاهاي، واللحاق برفيقهم علي كوشيب.
إنَّ هذه الأزمة، بقدر ما فضحت بعض مَنْ كانوا يتشدَّقون بالثورة من الإعلاميين وأنصافهم، بقدر ما أبرزت معادن زملاء كانوا في الظلّ، ولكنَّ مواقفهم الوطنيّة أكدت أنهم يستحقُّون أن يكونوا في بؤرة الضوء، كما ينبغي تحية السفراء والدبلوماسيين الذين رفضوا التشبُّث بمناصبهم بحجة الاحترافيّة والمهنيّة، وأعلنوا صراحةً رفضهم الانقلاب.
وإذا كنَّا نقدر لكثيرٍ من الدول والمنظمات وقفتها دعمًا للانتقال الديمقراطي، فإنَّ رهاننا يجب أن يكون على الشارع السوداني الذي ظلَّ دائمًا “يسوِّي البِدع، مذهلاً أسماع الملأ”.