لم يكن الانقلاب العسكري على سلطة مدنية ووثيقة دستورية نزهة على شواطئ مخملية وضفاف لازوردية. لم تكن تلك نزهة، لا بالنسبة للانقلابيين ولا للشارع السوداني المتحفز نضالا.
بدأ الانقلابيون بتهديد المتظاهرين وتخويفهم من الاستعداد لإطلاق الرصاص الحي. اتسع نطاق التهديد حتى بات القتل وإراقة الدماء ممارسة يومية. لكن العسكر يخاف عاقبة الأمر خوفاً شديداً. فالتحقيق في مجزرة القيادة ما يزال سيفاً مسلطاً على رقاب الجناة: من الذي خطط ومن أمر ومن نفذ ومن تجاوز حدود الأوامر؟ ولماذا (حدث ما حدث)؟ كل أولئك أسئلة حائرة بين يدي المحامي نبيل أديب ولجنته التي طالتها تدابير البرهان، بالتجميد، ضمن ما طالته في سياق الانقلاب.
عبد الرحيم دقلو، الرجل الثاني في الدعم السريع وشقيق حميدتي واسع النفوذ، يتولى قيادة عمليات الدعم السريع والأمن في مواجهة ثوار فاضت بهم الشوارع. يجتمع عبد الرحيم دقلو يومياً بقادة الوحدات الميدانية للوقوف على مسار العمليات في العاصمة المثلثة. حالات القتل والسحل والإصابات الخطيرة لا تهمه كثيراً بقدر ما يهمه الانتشار الواسع لمقاطع فيديو التقطها نشطاء الثورة وتعتبر توثيقاً دامغاً لتجاوزات العسكر. توجيهاته دائماً تنصب على القبض على كل من يقوم بتصوير مقاطع فيديو. لكن عدد المصورين الهواة يستعصي على الحصر. فكل هاتف في اليد هو صورة كامنة لا تفتقر إلى الجرأة لدى الشباب. فما العمل؟ تلك معضلة.
البرهان، من ناحيته، يهدئ روع مناصريه بتسريع عملية تشكيل حكومة مدنية يجري التفاوض حولها، ويتصدر حمدوك قائمة المرشحين لتوليها. لكن حمدوك يدرك حجم الدعم الخارجي للحكم المدني الذي يمثله، مثلما يستشعر صلابة الشارع المعارض وهشاشة التحالف الموالي للبرهان. من الطبيعي، والحال هذه، أن يضع حمدوك شروطاً من الصعب على قادة الانقلاب بلعها، ناهيك عن هضمها، لا سيما أن جهازهم الهضمي يستمد مناعته من نزلاء سجن كوبر بصورتهم المهتزة في ذهن شعب عاصر الإنقاذ زمناً طويلاً وعرفها ظاهراً وباطناً.
الحصار الدولي للبلد، ولاقتصادها بالذات، يثير فزعاً ترتعد له فرائص الانقلابين. بدأت الآن نذر ذلك الحصار بقرار الاتحاد الأفريقي المفضي إلى تجميد عضوية السودان فيه؛ وكذلك قرار البنك الدولي بتعليق كل عملياته في السودان؛ فضلاً عن تجميد الولايات المتحدة الأمريكية للمنحة البالغة 700 مليون دولار كان الكونجرس أقرها كمساعدات للسودان.
بيد أن هذه العقوبات ليست سوى قمة ظاهرة من جبل جليد ضخم. وما لا يظهر للعيان فهو الكتلة الأكبر تحت السطح. على سبيل المثال، فإن قائمة المرشحين لمناصب الحكومة المزمع تشكيلها وشيكاً، والتي وضعتها جماعة الإخوان المسلمين بين يدي البرهان من تحت طاولة مكتبه، تشمل عناصر معروفة بارتباطاتها بجماعات الإسلام السياسي على المستوى الإقليمي، كما يرتبط بعضها، من قريب أو بعيد، بملفات فساد مفتوحة على سعتها. كل ذلك من المرجح أن يعيد السودان إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب في القريب العاجل، إذا ما قدر لهذه المهزلة الانقلابية أن تستمر شهوراً.
الشارع من جهته لا يبدي أي ملاينة. فهو ما ينفك يكرر قوله إن المدنية هي خياره الذي لا يحيد عنه قيد أنملة، مهما سقط بين صفوفه من شهداء وسالت دماء وأصيب جرحى وضاقت معيشة. وحتى القسمة الضيزى للسلطة بين مدنيين وعسكريين، كما وردت في الوثيقة الدستورية، لم تعد مقبولة لشرائح عريضة وسط الثوار، حسبما تؤكد شعاراتهم وأهازيجهم وهتافاتهم. إذ أصبح استبعاد العسكر أمراً لا مناص منه لكي تستقيم الأمور في مقبل الأيام.
بهذا الموقف الشعبي الصلب من المدنية والاستهجان الشديد لأي تدخل عسكري في السلطة، استطاع الشعب السوداني أن ينتزع بجدارة إعجاب جميع شعوب العالم، كما أيدته أغلب حكومات الدول الحرة والمنظمات الأممية في سابقة لا نظير لها في تاريخ العالم. أما الاستثناء الوحيد الذي مثلته روسيا والصين، فهو مقبول طالما أن فاقد الشيء لا يعطيه!
في ظل هذا الوضع المعقد، من جهة، وشديد السيولة، من جهة أخرى، فإن السيناريو الأكثر احتمالاً يتمثل في عودة رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، إلى مكانه ليتبوأ منصبه ويدير طاقمه الوزاري بعد تعديلات طفيفة عليه يكون هدفها «حفظ ماء الوجه» للعسكر ومن يساندهم من حركات مسلحة منضوية تحت اتفاق سلام جوبا. أما الدرس الذي استقاه حمدوك من تجربته حتى الآن في التعامل مع العسكر فهو ضرورة رفع توقعات الشعب في أثناء عملية التفاوض وتتريس هذه التوقعات بالتهديد الصريح بأن الشارع جاهز لمساندة المدنية وتقديم تضحية بعد تضحية من أجل إرساء دعائمها. معنى ذلك أن يخرج حمدوك من أي تفاوض لا يفضي إلى تحقيق رغبات الشعب وأن يستعصم بالشارع الذي لم يخيّب ظنه ولن يفعل.
لقد آن أوان فرض الشروط المدنية، التي قد تنطوي على قدر كبير من المغالاة في ظاهرها. من ذلك، مثلاً، ضرورة تنحي البرهان من مجلس السيادة بحكم المادة (13) من الوثيقة الدستورية، حول شروط عضوية مجلس السيادة، وتحديداً بندها الثالث الذي ينص على أن عضو مجلس السيادة يجب أن «يكون من ذوي النزاهة والكفاءة.» وبانقلابه الحالي ونقضه للوثيقة الدستورية التي وقعها، فإن نزاهة البرهان وكفاءته يكونان قد أصيبا كلاهما في مقتل. وحسب منظمة الشفافية العالمية، فإن النزاهة في العمل السياسي تستلزم، من بين ما تستلزم، الحرص على حصول كافة الشركاء على فرص متساوية ومفتوحة وذات مغزى بحيث يؤثروا، على قدم المساواة، على عملية اتخاذ القرار ويحددوا محصلتها.
فهل يجتاز البرهان هذا الاختبار الموضوعي بإعلانه الانقلاب على المكون المدني؟ وهل هو أهل للمشاركة في انتقال سلمي نحو ديمقراطية مدنية يتطلع البلد إليها؟