لا أحد يملك حق محاسبة الناس على أجندتهم المضمرة، فالقوانين تحاسب الناس على ما يظهرونه من قول أو فعل لا على ما يكتمونه في الصدور. وما يعج به المشهد الحالي من تعارك وتحشيد وتدافع يحتاج قراءة هادئة ومنصفة لنكتشف بأن الأجندة بين كل الفرقاء ليست شديدة التنافر، وأن الجميع ينادي بشعارات وطنية شبه موحدة.
بالطبع هناك مشكلات تسمم الأجواء ولا نبرئ أحدا من تسبيبها، أولها مشكلة المكون العسكري الكبرى، ونقصد تحديدا الفريق البرهان ودائرته الضيقة، والذي نكص من قبل عن الاتفاقات التي كانت تتشكل مع قوى الحرية والتغيير المالكة للشارع وقتذاك بطيفها الواسع الذي لم تكن قد تناوشته العواصف والانقسامات، فعاد لاحقا تحت ضغط مواكب 30 يونيو الجارفة.
كما أنه شجع بشكل واضح وبتوقيت حساس، المكونات العرقية والجهوية لتكون قوة موازية في المشهد، رغم أن القوى الموجودة في الإرث السياسي السوداني اتسمت بقومية التوجه ما يجعلها قادرة على استيعاب كل هذه الأطياف بلا تضاد حاد مع الآخرين، إضافة إلى أنه بدأ في وقت مبكر التدخل في ما يخص العمل السياسي، رغم “تشريفية مجلس السيادة”، وبدأ يمهد للتنصل من تسليم قياد المجلس السيادي للمدنيين بحسب الوثيقة، ثم قام بتتويج ذلك بالاستيلاء على السلطة قطعا لكل طريق، ليجعل الثقة فيه محل نظر لدى الكثير من المراقبين والشركاء السابقين والشعب بمعظم مكوناته.
هذا لا يعني أن القوى السياسية والفئوية وغيرها بريئة من التلوث الذي حدث في الساحة، فهي التي شكلت التحالف السوداني الأكبر المتمثل في (قحت) والذي قاد البلاد للتخلص من النظام السابق، وحظيت بسند الشارع بشكل غير مسبوق في تاريخ البلاد، واكتسبت بالمد الثوري شرعية أن تكون الممثل للشعب في توقيع الوثيقة الدستورية، واحتفلت ومعها كل الشارع بتلك الوثيقة بعد أيام مضنية من العمل ليل نهار للوصول إلى ذلك الإنجاز. لكنها انزلقت في مهاوي الخطوط الخاصة لكل طيف من مكوناتها بدلا من العض بالنواجذ على الخطوط العامة التي تحفظ التحالف خلال الانتقال، واحتد التنازع الذي كان من الواجب أن يكون في قاعات الاجتماع فوصل بكل أسف للشارع والعلن، وأصبحت المحاصصات السياسية في المناصب بديلا للكفاءات المستقلة التي طمحت لها الوثيقة في نسختها الأولى التي سبقت اتفاق جوبا، ثم بدأت الانسحابات من ذلك التحالف، ليبدأ الجبل في التضعضع، وفقد رئيس الوزراء عبدالله حمدوك المرجعية المتسعة للحاضنة التي تدعم رؤيته وتعينه على القرار، لتفقد قحت بشكل مبكر ما سبق أن حققته من إجماع شبه كامل على تمثيلها للشارع ولجان المقاومة فيه ونبضه الحي.
حتى المنشقين عن قحت، لم يراعوا (العيش والملح) الذي جمعهم ذات يوم، فبدأوا يكيلون الاتهامات لبعضهم البعض، بل وبدأوا (الحفر) لإسقاط الغرماء، فزادت الهوة بينهم وبين مساحات مهمة من الشارع، في حين كان الفلول ينظرون بتلذذ إلى ما يجري، فأعطوا المزيد من الذرائع للشريك العسكري في الإطاحة بهم، والانحياز لفئات لا تشكل بالضرورة الجمع الغالب، ما فتح الباب لعودة الفلول ولو بثياب غير ثيابهم التي كانوا يلبسونها لكن بنفس المضمون الذي سبق أن مكنهم من السلطة في وقت سابق.
ليس الأوان أوان البكاء على اللبن المسكوب، والخروج من المأزق الحالي يتطلب خطوات شجاعة من الجميع، يتم من خلالها زحزحة المواقف إلى نقطة التقاء، وهي مهمة ليست عسيرة ويمكن أن تتم خلال بضعة أيام إذا سادت الروح الوطنية وخلصت النوايا.
أولى الخطوات الجلوس الفوري في جلسات مصالحة وطنية حقيقية مسبوقة بأداء القسم بأن يكون الوطن هو القيمة العليا دون أي أجندة خفية، ويكون التصالح برعايات محلية مقبولة من الجميع أو برعاية إقليمية أو دولية من الجهات التي أبدت رغبتها في التوسط.
الخطوة الثانية التوافق على الخطوط الرئيسة التي تجمع الفرقاء وتكون هي الموجه الأول للعبور بالانتقال إلى شواطئه الآمنة.
الخطوة الثالثة رفع حالة الطوارئ فورا وإطلاق سراح كل المعتقلين بموجب الطوارئ وإلغاء القرارات التي أعلنها البرهان.
الخطوة الرابعة توحيد قحت بمبادرة من أطرافها بالعودة للجلوس معا وتحويل خلافاتهم إلى قاعات الاجتماع والتداول بدلا من التشظي وتسميم المناخ، مع توسيع ماعون التحالف وقبول جميع المكونات المشاركة في اعتصام القصر بشرط أن تكون مكونات حقيقية وليست مدفوعة الثمن.
خامسا : رفع الاعتصامات جميعها فورا منعا للضغوط التي يعاني منها الوطن والمواطن كخطوة لإبداء حسن النوايا.. وفتح الحوار حول المطالب والتطلعات المشروعة.
أما آخر الخطوات فهي أن تتم إحالة البرهان للتقاعد برضاه الشخصي وكذلك حميدتي مع إصدار عفو عنهما لا يتعدى غيرهما، والحفاظ على الحق العدلي في استدعائهما للشهادة كلما استدعى الأمر ذلك، مع تقديم جميع من قاموا بفض الاعتصام وارتكاب جرائم ضد الإنسانية للمحاكمة حتى لو كانوا مجرد تنفيذيين للأوامر.
هذه الرؤى ليست فوق النقد، ولا أدّعي لها الكمال، لكنها وجهة نظر أرى أنها لو تحققت لتحقق معها انفراج كبير يجنب البلاد المصائب الداخلية والخارجية، ويحمي الانفراجات التي حدثت مع العالم سياسيا واقتصاديا بعد أن بدأت تلوح بوادر الانتكاسة والعودة للمربع الأول في هذه الجوانب.
نثق في العبقرية السودانية الكامنة في هذا الشعب، ونعتقد بأن العقل السوداني قادر على ابتكار الحلول التي تخرج ببلادنا من عنق الزجاجة دون خسائر.
وما التوفيق إلا من عند الله.