بعد المؤتمر الصحفي الاول الذي برزت فيه دلائل ارتباك حجج البرهان وتناقض مواقفه وعزلته البادية للعيان، اتضح انه يدرك انه يقف على صفيح من نار وان التحالفات التي يبحث عنها نسج من الخيال، ومن دفعوه من الخارج لا تهمهَم العواقب طالما سيكون هو الضحية،
فقد وقع بحق في شر اعماله وهو يدخل مغامرة انقلاب مستحيل اضطر اليه بحسابات شخصية متوقعة من مجرم يهرب باياد ملطخة بالدماء، وهي حسابات تفتقر الى التفكير في حجم المخاطر التي سيواجها، و أول هذه المخاطر هي انه يطيح بحكومة جاءت باتفاق مراقب دوليا ويعتقل رئيس وزراء يمثل خيار مجمع عليه بعد ثورة شعبية اعترف العالم بعظمتها، لذلك فرئيس الوزراء بالنسبة للشعب السوداني يمثل كل مكتسبات الثورة ورمزيتها. كما ان اعتقال رئيس وزراء مدني من قبل عسكريين يمثل اكبر جريرة وفق القانون الدولي، ولذلك وصف الاتحاد الاوربي الانقلاب بعبارة اخلاقية بانه خيانة للشعب، وتبعه الموقف الحازم من الاتحاد الافريقي بتجميد عضوية السودان. وسيترتب على موقف الاتحاد الافريقي مواقف المجتمع الدولي كما هو متبع، وقد احكم الدبلوماسيين حلقات الحصار باعلان مواقف واضحة من الانقلاب وهي سند لم تجده ثورة ديسمبر من اي سفارة.
والحقيقة الماثلة ان الخطر الاكبر على الانقلاب يأتي من المؤسسة العسكرية نفسها لان البرهان نفذ الانقلاب باسم القوات المسلحة لحماية مصلحته الشخصية للهروب من العدالة لما قام به من مجازر وانتهاكات لا تحصى وآخرها واخطرها جريمة فض الاعتصام، وليس في صالحه كقائد للجيش ان تأتي المساندة للانقلاب من الدعم السريع وهي نقطة ضعف امام العسكريين الذين يدركون ان تمكن الجنجويد من الجيش هو نهاية القوات المسلحة وسيكون القضاء على الانقلاب فرصة للجيش للتخلص من نفوذ حميدتي وهو الهدف الوحيد الذي يمثل مصلحة الجيش المباشرة.
التحدي الآخر الذي لم يضع حساب لعواقبه هو ان القوى التي اعتمد عليها كحاضنة ممثلة في جبريل ومناوي قد حصلت على مكاسب سلام جوبا كجزء من الحرية والتغيير والسلام الذي وقعته كان مع حكومة حمدوك ممثلة لقوى الحرية والتغيير ، ولذلك فان تأيدهم للانقلاب يعني نسف الارضية التي قام عليها الاتفاق وهي الوثيقة الدستورية، ويدركون انهم بذلك قد فقدوا شرعيتهم وسيطردهم من المشهد والقضاء عليهم بعد ان يورطهم في نقض ما تم على ايديهم، وهو يدرك انهم بذلك يكونوا قد عزلوا نفسهم من قاعدتهم المحلية والسياسية وسندهم الدولي الذي ايد الاتفاقية، فاذا استمروا في دعم الانقلاب يكونوا قد اختارو نهاية سهلة لكل مكتسباتهم من ثورة ديسمبر، ونسفوا فكرة السلام ودخلوا في مخاطرة مؤكدة العواقب، وقد يواجهوا معارضة من داخلهم لهذا الموقف وقد شاهدنا الحشود التي خرجت في دارفور رفضا للانقلاب.
ولم يفت عليه بالطبع تحدي الشارع السوداني الذي اكتسب خبرات كبيرة في الثلاث سنوات الماضية في تجريب كل امكانياته واسلحته السلمية بنجاح واهمها المواصلة والصمود مع الحشود المليونية التي تسد اي طريق امام تكتيكات الديكتاتورية واقر البرهان نفسه بان العنف وهو سلاحه الوحيد، لن يجدي مع شارع اليوم عندما ذكر في مؤتمره الصحفي ان الطواري لا تعني حظر التجول ومنع الحريات، وهو محق لان الطواري كان اعلى ما في خيل البشير الذي سقط بعد اعلانها وسط دهشة الجميع. والعصيان المدني كسلاح مجرب لم يكن سهلا الوصول اليه وقد احتاج الى عشرات السنين من التعريف به واهميته وكيفية تنفيذه والاقتناع بمضيه، وقد تاكدت كل هذه العناصر بتجريبه على الارض وهذه نقطة جوهرية لا اظن البرهان البرهان يجهلها، لان العصيان المدني كان قد نفذ بالفعل بمجرد كشف الانقلاب، هذا بالاضافة للروافع النفسية للمقاومة، من دماء شهداء ومطالب قصاص مازال يلهب صدور الثوار وغضب على اللجنة الامنية والبرهان شخصيا لمعرفتهم بانه قاتل ومتورط في قتل الثوار في مجزرة الاعتصام وما انقلابه الا هروب من اقتراب العدالة بعد انتهاء فترة رئاسته للمجلس السيادي، لذلك لن يستفيد من اي اكاذيب، لان نواياه مكشوفه وانقلابه لم يكن سرا يحتاج الى التفكير في دوافعه وهو انقلاب تشير كل الدلائل الى انه جاء في وقت مستحيل، واقتضته حسابات شخصية بحتة للبرهان وهو مغامرة هروب الى الامام لا مفر منها رغم حساباتها الظاهرة، لذلك لن تمر ايام حتى يسعى للخروج من المأزق بتسوية جديدة حتى ولو مع حلفاءه الاقليميين على طريقة زين العابدين بن علي.
واذا كان البرهان يظن انه يغازل الاسلاميين كحاضنة جديدة فقد لاحظنا التوجس الذي يؤيدون به الانقلاب، وذلك لعدة اسباب السبب الاول انهم لا يمكن ان يدخلوا في مغامرة سقوط ثانية تفقدهم التسامح الذي وجدوه من ثورة ديسمبر وسيكون ردة الفعل قاسية وستجتاحهم الثورة الجديدة ويكونوا بذلك قد خسرو للمرة الثانية دون مقابل، وحجم الخسائر بالضرورة اكبر.
والسبب الثاني انهم لا يثقون في البرهان نفسه باعتباره انتهازي يبحث عن مؤيدين ولن يتحالف مع الاسلاميين وان بدا كمن يسعى لمصلحتهم بمساعدتهم في تقويض العدالة، ببساطة لانهم كرت محروق عالميا واقليميا والتحالف معهم مناقض لتحالفاته، ولذلك سيغدر بهم كما غدر بالثورة.
وبحسابات بسيطة فان الغالبية من الاسلاميين ادركوا انهم لن يستفيدوا سياسيا من انقلاب جاء للتسلط على الشعب وقد خبروا بانفسهم ان نطام القهر الذي مكنوه لثلاث عقود انهار كما تنهار بنايات القش، ومن الافضل لهم العودة الى المسرح السياسي بمدخل مغايير. .
خلاصة القول ان هذا الانقلاب على الرغم من مأساويته فقد اعاد الثورة الى ملعب الثوار، وقد اصبحت دروس السنتين الماضيتين زاد يكفي لتحقيق ثورة كاملة فرزت فيها المواقف وانكشف فيها معدن كل التيارات، بل الاشخاص، والمحك الذي يحدث الان سيخرج منه مستقبل السودان الذي حلم به الثوار.
ونقول للبرهان اي منقلب ينقلب. فانها ايام معدودات.
الحرية للمعتقلين والثورة مستمرة.