حراك الشارع السوداني ( المليوني) السلمي، ضد انقلاب الفريق عبد الفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلحة السودانية و( المكون العسكري) حقق هذه الأيام، انتصارا، حقوقيا عالميا، إذ نجح في استقطاب دعم منبر حقوقي ، دولي، في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في جنيف، وقد دان استحواذ العسكر على السلطة.
إنتصار ( المليونيات) تجلي في رفض وتنديد مجلس حقوق الإنسان بـ (الانقلاب)، ودعوته إلى ( عودة فورية ) للحكومة المدنية، وتشديده على ( إطلاق سراح جميع المعتقلين بشكل غير شرعي أو تعسفي) وتنديده بـ ( التوقيف الظالم) لرئيس الوزراء دكتور عبد الله حمدوك، ما يشكل إضافة نوعية لمواقف الدول الكبرى ، وبينها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج وألمانيا، التي دعت لانعقاد مجلس حقوق الإنسان.
الجبهة الحقوقية مهمة، وفاعلة، وتربك الانقلابيين، ومنتهكي حقوق الإنسان، وحدودها الجغرافية لا تنحصر في نطاق دول كبرى تحترم حقوق الإنسان، بل تشمل دول عدة في العالم ، كما أن الحقوقيين وناشطي حقوق الإنسان منتشرون في كل الدول، ويتمدد نشاطهم عالميا، سواء في دول ديمقراطية أو ديكتاتورية، ما يعني أن مسألة انتهاك حقوق الإنسان في السودان وغيره من الدول ،تحظى حاليا باهتمام حقوقي عالمي .
خلال مداولات جلسة مجلس حقوق الإنسان بجنيف، الجمعة، الخامس من نوفمبر الجاري ( 2021) أعلنت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، السيدة ميشيل باشليه ، مواقف واضحة وقوية، إذ دعت في كلمتها إلى ضرورة ( العودة إلى الحكم المدني) في السودان، ودانت ( الانقلاب) ودعت إلى ( إطلاق سراح المعتقلين) ورأت أن (استهداف العسكر لأعضاء لجنة إزالة التمكين بالاحتجاز التعسفي انقلاب على العدالة الانتقالية ومكافحة حقوق الانسان)، وحضت ( العسكر ومن يؤيدهم على العودة إلى طريق السلام والإصلاحات القانونية ومكافحة الفساد) ورأت أن الانقلاب ( أضر باتفاق جوبا للسلام والوضع في دارفور) .
أبرز وأهم العناوين في مداولات عدد من الدول التي خاطبت اجتماع مجلس حقوق الإنسان، ركزت على إدانة ( الإنقلاب) و( الدعوة لإطلاق سراح رئيس الوزراء دكتور حمدوك و معتقلين سياسيين وصحافيين ومحامين وناشطين) و( العودة الفورية للديمقراطية) و(التصدي لانتهاكات حقوق الانسان) و( تقديم الدعم للشعب السوداني) و أهمية ( محاسبة ومحاكمة المتسببين في الانتهاكات) و( ندعو لاحترام حرية التعبير والتجمع السلمي) و(الصحافيون والعاملون في مجالات حقوق الإنسان يجب أن يمارسوا بأعمالهم من دون ترويع).
العناوين شملت ضرورة (إحترام خيارات الشعب السوداني) و(أمن واستقرار السودان يهمنا) و(نحث القوات المسلحة على احترام القانون الدولي لحقوق الإنسان) و(سنتعاون مع الأسرة الدولية لإعادة الحكم المدني) و( عدم الاستقرار في أفريقيا يهدد السلم والأمن الأفريقي) و(ندعو الجميع إلى احترام الوثيقة الدستورية ) و ( ندعو الجيش إلى إعادة السلطة لحكومة يقودها المدنيون) و(نتيجة أي تفاوض لن تكون مجدية إذا لم تحترم إرادة الشعب السوداني) .
هذه المواقف تصب في مجرى الدعم لإرادة الشعب السوداني، الذي شدد بمليونيات 30 أكتوبر 2021 على تمسكه بثورته، وأهدافها ( حرية، سلام وعدالة) و( مدنية خيار الشعب).
باشليه خطت خطوة مهمة بتركيزها على آلية مستقلة لمراقبة حقوق الإنسان في السودان، ويأتي تعيين خبير لرصد الانتهاك، ليؤكد أن الانقلابيين سيخضعون لعملية رصد ورقابة بشأن الانتهاكات، وستنجم عن ذلك قرارات وخطوات دولية جديدة ، ستضغط على الانقلابيين، وتحول دون مد جسور التعاون معهم.
نُعيد للأذهان أن الرئيس المخلوع عمر البشير كان معزولا وملاحقا دوليا بسبب انتهاكاته حقوق الإنسان ، والمؤكد أن البرهان ومن معه سيواجهون المصير نفسه إذا لم يتراجعوا طوعا عن انقلابهم، وواصلوا انتهاك حقوق الإنسان، ما يُعزز أن الانقلابيين إلى عزلة وسقوط، بسبب حيوية الشوارع والحصار الدولي.
في هذا السياق جاءت المشاركة المهمة لوزيرة خارجية الحكومة السودانية الشرعية دكتورة مريم الصادق المهدي، بكلمة مسجلة في اجتماع مجلس حقوق الإنسان، رغم ظروفها الصحية، لترسل رسائل مهمة، فهي تؤشر أولا إلى الدور الحيوي الذي تلعبه الوزيرة والسفراء والديبلوماسيون الرافضون للانقلاب في هذه المرحلة.
مشاركة الوزيرة في هذا المنبر الدولي تعني أن الأمم المتحدة ودولها تعترف بالحكومة الشرعية، لا بالانقلابيين ،وهذه مسألة مهمة، تستوجب أن يركز عليها رافضو الانقلاب في كل معاركهم الحقوقية والسياسية.
هذا كله يعني أن ما جرى في جنيف يشكل محاكمة حقوقية وضربة قوية للانقلابين، وانتصارا عالميا لشعب السودان والحقوقيين في كل مكان، كما يعني ذلك أن الانقلاب مرفوض إقليميا ودوليا، وعلى نطاق واسع، والمتوقع أن لا تتعامل دول عدة مع الانقلابيين، وستواصل دعم الشعب ،وهذا ما دعوت إليه في مقال فور وقوع الانقلاب، وأجدد الدعوة مرة أخرى، في هذا الشأن ، لأن ذلك يدعم شعب السودان، وينتصر لدماء الشهداء والجرحى والمفقودين، و في الوقت نفسه يعزل الانقلابيين دوليا.
أمام القوى الحقوقية، والمهنية، والسياسية، ولجان المقاومة فرصة مهمة لخوض معارك حقوق الإنسان، في فضاء دولي واسع، بكشف الانتهاكات، والتواصل مع الحقوقيين في دول بالإقليم والعالم ، وفي هذا المجال يلعب وسيلعب سودانيو المهاجر دورا حيويا، وهاهي رابطة المحامين والقانونيين السودانيين في بريطانيا أعلنت بدء تحرك قانوني، بإجراءات قانونية اتخذتها بشأن عملية قطع خدمة الانترنت، التي أقدم عليها الانقلابيون عشية انقلابهم في 25 أكتوبر 2021.
في ضوء مواقف عالمية متسارعة ، فان الحراك الشعبي، الذي يرفع أعلام الحكم المدني ، و السلمية، و الاضراب والعصيان المدني سيستقطب مزيدا من الاهتمام والدعم الدولي، وفي أوساط باتت تعرف الآن، وأكثر من أي وقت مضى، أن شعب السودان، يتحدى الديكتاتوريين الجدد، ويقاومهم سلميا، بأروع مشاهد التظاهر، المدني، السلمي، المُتحضر.
الدعم الحقوقي الدولي يستوجب أن توحد القوى المهنية والسياسية ولجان المقاومة رؤيتها وخطابها السياسي، والإعلامي، وأن تحرص على تمليك المعلومات باستمرار للسودانيين والعالم بشأن التطورات.
هذا أمر مهم أيضا لدحض شائعات، عبر عمليات تسريب أخبار مضللة ، يطلقها الانقلابيون ومن يؤازرهم، في سبيل ارباك المشهد بالضرب على وتر التفاوض مع الانقلابيين والحديث المكررعن قرب التوصل إلى اتفاق هلامي بين من خانوا العهد والتعهدات ، و(قوى الحرية والتغيير) أو بين الانقلابيين ورئيس الحكومة الشرعية دكتور حمدوك.
هذا كله يستوجب بعد الانتصار الحقوقي في جنيف أن يركز رافضو الانقلاب، في معاركهم السلمية، على قضايا حقوق الإنسان ، لإشاعة ثقافتها وشعاراتها في حراك الشارع، لأنها الأكثر تأثيرا في أوساط دولية تحترم الحريات، ولأنها تعني أن شعبنا ينتفض في سبيل بناء دولة المؤسسات، التي تصون وتحترم حقوق الإنسان، ويسعى في الوقت نفسه إلى مُساءلة منتهكي الحقوق، لأن الانقلاب جريمة، وأن ما سبقه من تآمر، وشهده من انتهاكات يجب أن تجد طريقها إلى العدالة.
ما يثقل كاهل الانقلابيين، وهم منتهكون لحقوق الإنسان، أن هناك ( مساءلة) منصوص عليها دوليا، إذ تشدد المنظمة الدولية على أن ( على الدولة وغيرها من الجهات المكلفة بالمسؤولية أن تمتثل للأعراف والمعايير القانونية المكرسة في صكوك حقوق الإنسان، وإذا ما أخفقت في ذلك يحق لأصحاب الحقوق المتضررين الشروع في إجراءات أمام محكمة مختصة أو أية جهة تحكيم أخرى للحصول على إنصاف ملائم ، ووفقا للقواعد والإجراءات المنصوص عليها بالقانون).
الأمم المتحدة شددت على أن ( حقوق الإنسان غير قابلة للتجزئة، سواء أكانت حقوقا مدنية ، أو سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية) وأنها ( جميعا حقوق متأصلة في كرامة كل كائن إنساني)، ما يعني أن تتعدد ساحات المواجهة للانقلابيين، وفي صدارتها جاءت مداولات جنيف، الحيوية.
برقية:
بعد حراك الشارع الباهر وانتصار جنيف، محتاجون إلى توحيد الخطاب السياسي والإعلامي لتجنب ارسال رسائل خاطئة يستغلها الانقلابيون .
لندن- ٦ نوفمبر ٢٠٢١
modalmakki@hotmail.com