«كارثة متوقع حدوثها في السودان» كان هو عنوان مقالنا بتاريخ 18 أكتوبر/تشرين الأول المنصرم. وبالفعل، لم يمض سوى أسبوع فقط وحدثت الكارثة لتقع البلاد مرة أخرى في جب أزمة جديدة، وكأنما كتب على السودانيين أن تُسخّر كل طاقاتهم، منذ فجر الاستقلال قبل 65 عاما، لإطفاء الحرائق وفض النزاعات بدل البناء والتعمير.
لذلك، ليس غريبا أن بلادنا، وهي من أوائل الدول التي نالت استقلالها في القارة الأفريقية، لا تزال في مربع التخلف السياسي والتنموي، تائهة الخطى، ضالة الطريق، بعيدا عن مشروع بناء دولة ما بعد الاستقلال، الذي سارت فيه بلدان القارة الأخرى، رغم أن بلادنا غنية بكنوز هائلة من الثروات الطبيعية، ومحظية بمنظري السياسة وفلاسفتها، حتى وسط العسكريين. ولكن، تظل السياسة في نظر بعض هولاء المنظرين والفلاسفة، إما مجرد صرف كلام وتدبيج شعارات، أو إتخاذ وتنفيذ قرارات إدارية عسكرية، وكأن السياسة ليست علما أو إبداعا وفنا.
حدثت الكارثة على خلفية استقطاب سياسي وإجتماعي حاد، وصل حدا خطيرا كان لا بد أن يدفع بالأوضاع في البلاد لأن تنفجر، ما دام لم يتم الإلتفات إلى المشاكل في مسار الفترة الانتقالية ومعالجتها، وفي لبها مشاكل العلاقة بين الشريكين، المكون المدني والمكون العسكري، اللذين عُهد لهما قيادة الفترة الانتقالية. أما الدعوات للحوار كنهج لحل هذه المشكلات، فتمخض عنها حوار الطرشان الذي ظل محكما قبضته على العلاقات السياسية بين سائر مكونات المجتمع السياسي، خاصة المكونين المدني والعسكري.
أما شعب السودان، فقد أثبت وأكد تاريخه منذ فجر الاستقلال وحتى اليوم، أنه أبدا لم ولا ولن يكون مجرد متلق أو متفرج أو مراقب سالب لما تدور من أحداث في البلاد، وهو أبدا لن يكون مجرد سلعة تتنافس على شرائها النخب والقيادات السياسية، المدنية والعسكرية، وإنما هو الطرف الرئيسي الذي يملك الحل الصحيح لمعادلة التغيير في السودان. لذلك ظل، ومنذ بدايات التأزم، يسعى لاستنتاج الإجابات الصحيحة للأسئلة المثارة حول لماذا يتعثر تنفيذ مهام الفترة الانتقالية؟ ولماذا يتشاكس العسكريون والمدنيون الذين يأتمنهم الشعب على قيادة البلاد في هذا المنعطف الحرج والخطير؟ ولماذا تتضارب مصالحهم إذا كانت هي ذات مصالح الوطن؟ ومن هذا الذي يود رمي البلاد مرة أخرى في لجة القمع والكبت والاحتراب الأهلي؟ ولماذا هم غير آبهين لغضبة الحليم الذي يمهل ولا يهمل؟..
ثورة 2018 المجيدة لم تكن مجرد انتفاضة جياع، أو لتحقيق أهداف سياسية بحتة وآنية، بقدر ما هي ثورة جيل، إنتفض ليحطم الأفق المسدود الذي بناه نظام القمع والشمولية، وخيبات السياسة والساسة
لا أحد ينكر أن مسار الفترة الانتقالية وأداء أجهزتها يحتاج إلى إصلاح وتصحيح. وهذا التقرير لم يأت من خارج الأجهزة الانتقالية وحدها، بل أتانا حتى من داخلها. ولعل من بين أوائل الناطقين بهذا الحديث هو الأخ الدكتور عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء. أخطاء جسام وخطيرة وكارثية أُرتكبت بحق هذا الوطن وشعبه وثورته، ولكن الخطأ الأكبر هو تجاهل تلك الأخطاء وتركها لتتفاقم حتى وقع الفأس في الرأس.
الكل، عسكريين ومدنيين، ساهم في هذه الأخطاء، ولكن النصيب الأكبر تتحمله حركتنا السياسية، منذ مفاوضات الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية وصولا إلى تفاقم الأزمة الأخير، عندما قررت خوض معركتها عبر الإعلام والتجييش الشعبوي. أما إشارتنا إلى الحركة السياسية فلا تقتصر على الحرية والتغيير وحدها، مثلما تمتد إلى تجمعات المهنيين والقوى المدنية. ولكنا في هذا المجال، لا نود الخوض في تفاصيل هذه الأخطاء ومسبباتها، ونؤجل ذلك إلى حين. فقط، نشير إلى نقطتين أساسيتين، أولهما أن الإصلاح لا يمكن أن يأتي استجابة لضغوط هذا الطرف أو إرضاء لمصالح الطرف الآخر.
والنقطة الثانية أن التدابير والإجراءات التي نفذتها، ولا تزال تنفذها، قيادة القوات المسلحة منذ الخامس والعشرين من الشهر المنصرم، لن تحقق أي إصلاح بل ستفاقم الوضع أكثر وتزيده سوءا.
ومباشرة بعد تفجر الأزمة، تواضعنا نحن مجموعة من الشخصيات لبذل مجهود هدفه الأول حقن الدماء ومنع سقوط المزيد من الشهداء من شباب الوطن. ودخلنا في مناقشات مع المكون العسكري حيث تم الاتفاق على سحب الجيش والدعم السريع من الشوارع والاكتفاء بالشرطة لحراسة مرافق الدولة ومنع الاقتراب منها. ثم توافقت المجموعة على مقترح جوهره أن يعقد الفريق أول عبد الفتاح البرهان باعتباره رئيس مجلس السيادة، والدكتور عبدالله حمدوك باعتباره رئيس مجلس الوزراء، لقاء يؤكد على عدد من النقاط منها استمرار حالة الطوارئ إلى حين تكوين مجلس السيادة ومجلس الوزراء وتعيين الولاة، وإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين ومن وجهت له تهم يقدم إلى المحاكمة، يشرع الدكتور حمدوك في تكوين مجلس وزراء من كفاءات وطنية مستقلة بدون أي محاصصات حزبية أو حاضنات سياسية، كما سيناقش اللقاء عددا من القضايا الأخرى موضوع الأزمة.
قدمنا هذا المقترح إلى رئيس الوزراء الدكتور حمدوك ووافق عليه، وقدمناه أيضا إلى المكون العسكري، لكن لم نتلق ردا حتى لحظة إعداد هذا المقال، كما قدمناه إلى المكونات السياسية المختلفة ووافقت عليه. مرة أخرى، لا أرى مخرجا سوى العودة إلى منصة الحوار بين قوى الثورة للتوافق على وثيقة سياسية جديدة تخاطب كل أخطاء السنتين الماضيتين من عمر الفترة الانتقالية، وذلك غض النظر عن تباين وتباعد أو تقارب مواقف أطراف هذه القوى، وإن كانوا يحبون بعضهم البعض أم لا. أتمنى فعلا أن يرتفع مستوى وعي هذه القوى، مدنيين وعسكريين، إلى مستوى توقعات وأمنيات الشعب، فيُثبتوا فعلا أن عليهم واجبا سياسيا ووطنيا وأخلاقيا ليتشاركوا مسؤولية مصير شعب وبلد مهدد بالانفجار.
إن ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 المجيدة لم تكن مجرد انتفاضة جياع، أو لتحقيق أهداف سياسية بحتة وآنية، بقدر ما هي ثورة جيل، انتفض ليحطم الأفق المسدود الذي بناه نظام القمع والشمولية، وخيبات السياسة والساسة، جيل لن يصمد أمامه أي أفق مسدود آخر، ولن يهدأ له بال حتى ينتصر.
القدس العربي
كاتب سوداني