ما يشاع من وساطات للتقريب بين المدنيين والعسكريين لن يردع الانقلابيين ويثنيهم عن مواصلة تنفيذ مخططهم الرامي إلى جر البلد إلى إنقاذ مستأنفة.
ومن الواضح أنهم نسخة طبق الأصل من الإنقاذ. إذ اقتفوا خطاها في كل عمل قاموا به حتى الآن: من نقض للعهود، إلى اعتقالات تعسفية واسعة، وقطع وسائل الاتصال من إنترنت إلى شبكات هاتف، وفصل تعسفي للناس من عملهم وتعيين غيرهم دون مسوغ قانوني، فضلاً عن العنف المفرط في قمع المظاهرات وترويع الشعب الملتزم بسلميته التي سبق للانقلابيين أن أشادوا بها. إنهم أيضاً يتحرون الكذب ويتعاطونه دون فطنة ولا استحياء.
وبوسعنا أن نتوقع أن يتبنى الانقلابيون نظاماً سياسياً يكون خجولاً بدايةً في الكشف عن منطلقاته الأيديولوجية، ليكشر رويداً رويداً عن أنيابه الإسلاموية البشعة. وفي المرحلتين كلتيهما، الستر والعلن، فإن المبدأ الرئيسي الذي يحدو نظامهم سيكون خدمة المصالح الاقتصادية الضيقة لجماعتهم، التي شملت قطاعات جديدة من لوردات الحروب الأهلية غرباً وشرقاً ووسطاً. فالهلع الذي انتابهم جميعاً من قرب انتهاء فترة توليهم لرئاسة مجلس السيادة وتسليمها للمدنيين حسبما نصت عليه الوثيقة الدستورية، ثم هلعهم من مسار لجنة تحقيق مجزرة فض الاعتصام، والجرأة غير المعهودة التي توختها لجنة تفكيك الإنقاذ لتصل أخيراً إلى العمق المحظور: وهي شركات الأجهزة الأمنية، كل ذلك كان سبباً مباشراً للانقلاب.
أي حديث سوى ذلك عن تصحيح مسار وتنفيذ انتقال وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، فهو لا يعدو أن يكون من باب «طق الحنك في البيش والوسخان»، بلغة الراندوك!
أما الخسائر الضخمة التي سوف يتكبدها اقتصاد البلد من ضياع فرص إعفاء الديون والحصول على معونات موعودة وقروض ميسرة واستثمارات تراعي استقلالية البلد وسيادتها، فكل ذلك لا يهمهم في قليل أو كثير. وكيف يهمهم بعدما عمد أسلافهم إلى ضياع ثلث مساحة البلد وتمزيقهم لخارطة كانت تتمدد على مليون ميل مربع؟ حدث ذلك بسبب الاستعلاء الأجوف والجهل الفاحش بتاريخ البلد وتعدد ثقافاتها.
لكن، ورغم هذا الاستبداد الذي يبديه الانقلابيون، فإننا نظن ـ ظناً كاليقين ـ باستحالة أن يطول أمد هذه المهزلة. فلماذا؟
لأن الشعب السوداني، وبعد ثلاثين سنة ضاعت من تاريخه، قد استوعب درس مواجهة الديكتاتورية استيعاباً تاماً، وأدرك مغبة التباطؤ في ابتدار مواجهة لا شك في حتميتها. كما أنه هذه المرة قد صنع ذخيرة لا تنفد من الوعي. وفوق ذلك، فقد تصدى لسلطة مدججة بالسلاح، ولا تعترف بغير القوة والعنف. كما أنه اجترح في سبيل النصر مآثر وطنية بتضحيات جسام وإراقة دماء غزيرة وعزيزة. وأخيراً، فإن المستبد لم يعد يثير في النفوس ما كان يثيره من خوف ورعب بعد أن شاهد الشعب فظائع بيوت الأشباح التي صمد بداخلها، واستشهد في ظلماتها، وطنيون شرفاء يعدون مفخرة البلد بل العالم بأسره.