اختلف الناس حول تسمية الإجراءات التي اتخذها الفريق البرهان يوم ٢٥ أكتوبر ما بين قائل إنها انقلاب ومن قائل إنها “حركة تصحيحية” للمسار. ومن رائي أنها ليست انقلاباً لأنها استكمال لانقلاب وقع يوم ١١ إبريل ٢٠١٩باستيلاء اللجنة الأمنية لنظام البشير الحكم في صورة المجلس العسكري الانتقالي. فإن كان لابد من وصف تلك الإجراءات بالانقلاب فهي “دبل كك” انقلابي في لغة كرة القدم. أو هو “business as usual” لانقلاب ١١ إبريل في لغة العجم.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا لم نتواثق على أن ما حدث في ١١ إبريل انقلاب وليس “انحيازاً” لثورة الشعب كما يزعم قادة الجيش والجيش الثاني وطوائف من المدنيين؟
لا أريد أن أخوض هنا في توهمنا الانقلاب كانحياز لنا بقدر السعي لمعرفة مصدر هذا التوهم. وهذا المصدر عندي هو انقلاب أبريل ١٩٨٥ الذي تيمن به من اعتصموا بالقيادة في ٤ إبريل ٢٠١٩. وظل الفهم السائد أنه انقلاب انحياز الجيش للشعب. ولم يكن الأمر كذلك إلا إذا عنوا بالشعب من لم يسقط نظام نميري. فلم يألوا ذلك الانقلاب جهداً في قصقصة جناح ثورته ليخرج منها كما خلقتني يا ربي. وأعرض هنا بعض ما كتبته الأكاديمية البريطانية ويلو بيردج في كتابها عن ثورتي ١٩٦٤ و١٩٨٥ (٢٠١٥) ليرى القارئ كيف انحاز ذلك الانقلاب إلى غير الشعب الذي زعم الانحياز له.
لم يقبل الشعب الذي قام بالثورة في أبريل ١٩٨٥، ممثلاً في تجمع المهنيين، بانقلاب سوار الدهب. وأعلن مواصلة الإضراب العام، الذي كان أشهره بوجه نظام نميري، حتى يسلم العسكريون الحكم للمدنيين عن يد وهم صاغرين. ولكن القيادة العسكرية للانقلاب طلبت بفض الإضراب ملوحة بما سيتكبده الاقتصاد من جرائه. وأرسلت قوة عسكرية لإدارة الكهرباء لفك إضراب مستخدميها. وكرد فعل رتب التجمع مظاهرة بمذكرة للقيادة العسكرية ليسلموا مقاليد الحكم للمدنيين تهتف “لا بديل لحكم الشعب”. ونُقل عن سوار الدهب إنه قال إن النقابات ناصبتنا العداء وطالبونا بالعودة للثكنات، ولكننا أخفناهم في اجتماع لنا بهم ففضوا الإضراب. وكان من بين النقابات من ظاهرهم على ذلك الفض. ولتؤسس قيادة الانقلاب لوجودها في هيكل الثورة أقامت المجلس العسكري الانتقالي من طرف واحد وباركته أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي التي كانت في تحالف مع التجمع النقابي. وقل إن كان الحزبان على خلاف مع العسكريين من بعد ذلك.
لم يكف التجمع النقابي من الاحتجاج على الانقلاب العسكري. فتقدمت نقابة الأطباء، رأس الرمح في الثورة واستحق الجزولي دفع الله، نقيبها، رئاسة الوزراء بهذه الصفة، بمذكرة للمجلس العسكري طالبت فيها بإلغاء حالة الطوارئ، وتكوين برلمان للثورة من النقابات، واستبدال الحكام العسكريين في المديريات بمدنيين، وإلغاء قوانين سبتمبر ١٩٨٣ الإسلامية. ولم يسمعوا من المجلس.
من الجهة الأخرى سيرت نقابة البنوك مظاهرة تطالب بفصل مديري البنوك لدورهم في تخريب الاقتصاد والفساد. ففرقتها الشرطة. ولم تمر ثلاثة أيام على ذلك حتى أعلن العسكريون حظر التظاهر. ورفض المجلس، الذي لم يجرؤ على فصل أي مصرفي فاسد، مطلب إعادة من فصلهم نظام نميري للعمل.
وتدخل المجلس العسكري بلا اختصاص حتى في صورة ما ستكون عليه الفترة الانتقالية وصورة الديمقراطية للبرلمان القادم. فكان التجمع تنازل عن رأيه أن تكون الفترة الانتقالية خمس سنوات ليتفق مع الأحزاب لقصرها على ثلاث سنوات. ولم يقبل المجلس العسكري بذلك وقرر أن تكون الانتقالية لمدة سنة واحدة “فقطن”. من الجهة الأخرى رفض المجلس العسكري تصوراً للتجمع والأحزاب لديمقراطية توافقية تسمح للقطاعات الحديثة في المدن بتمثيل يوازن غلبة الريف الذي يعيد إنتاج برلمانات تهيمن عليها الأحزاب التقليدية. وبلغت تلك الهيمنة حداً اعتزلتها بها تلك القوى، صانعة التغيير السياسي، لأنها لا ترى نفسها فيها. ومتى اعتزلتها تآمرت ضدها. ولو جاء كلب ليعضها لن يهشه أحد. وهذا التصور لديمقراطية توافقية مستدامة قديم كانت البذرة الأولى فيه بعد ثورة أكتوبر. ولم يتحقق منه شيء. وتواضعت الأحزاب والتجمع في ١٩٨٥ على تصور توافقي لا ننشغل هنا بتفاصيله إلا أن المجلس الانتقالي رفضه ولم يبق من التوافقية تلك سوى دوائر الخريجين. وهكذا عاد البرلمان التقليدي في انتخابات ١٩٨٦. وجاء الكلب. وعضه. ولم يهشه أحد لثلاثين عاماً.
ومن الجهة الأخرى بدأ المجلس الغزل مع الجبهة القومية الإسلامية ممن عرفت وقتها ب”السدنة” لمظاهرتها نميري منذ المصالحة الوطنية في ١٩٧٧ حتى مغرب عهده في ١٩٨٥ لينقلب عليها ويلاحقها. فأرسل المجلس طائرة خاصة للأبيض لنقل حسن الترابي من معتقله فيها إلى الخرطوم حراً طليقا. وكان السدنة قد تظاهروا في ٧ إبريل مؤيدين انقلاب سوار الدهب. وطالبوا مثل المجلس بإنهاء الإضراب العام كأنهم كانوا طرفاً فيه. واجتمع قادتهم بالعسكريين ليصرح قادتهم أنه لا الأحزاب التقليدية ولا النقابات مأذونة للعمل السياسي. وخلت لجنة الدستور التي كونها المجلس من ممثل للتجمع النقابي. وذكرت بيردج أن البشير طرأ على اجتماع بين العسكريين والتجمع النقابي ليصف التجمع بأنه شلة شيوعيين بوسع الجيش أن يقطع دابرهم في أي وقت.
وانعقد التحالف بين السدنة والمجلس الانتقالي على أشده بعد استئناف العقيد قرنق للحرب واسقاطه لطائرة الركاب المدنية فوق سماء ملكال. فظهر السدنة في مسوح الوطنيين حلفاء الجيش بلا منازع حتى حدث ما حدث في ١٩٨٩. ولا أعرف عبارة وثقت لكسب السدنة من انقلاب سوار الدهب مثل كلمة عبد الوهاب الأفندي القائلة:
“ليس معلوماً دور الإخوان في انقلاب ١٩٨٥، ولكنهم لم يكونوا ليتمنوا في أقصى أحلامهم شططا واقعة أفضل لهم منها”.
الذي يسمي انقلاب إبريل ١٩٨٥ انحيازاً للشعب صح أن يعين الشعب الذي انحاز له. ليس من قال إنه انحاز لهم على أي حال.
ونواصل
IbrahimA@missouri.edu