«إنهم فاشلون في علم الانقلاب للمبتدئين» («They’re failing coup d’état 101»): أطلق هذا الحكم على الانقلابيين السودانيين سفيرٌ غربي سابق عمل في الخرطوم، وهو ذو خبرة طويلة في شؤون البلاد حسب صحيفة «واشنطن بوست» التي نقلت كلامه دون ذكر اسمه نزولاً عند رغبته.
والحقيقة أن الطريقة الرعناء التي نفّذ بها الفريق عبد الفتّاح البرهان وزملاؤه العسكريون انقلابهم في الخامس والعشرين من الشهر الماضي تثير الاستغراب لرداءة التخطيط لها وقلّة الحنكة السياسية التي أسفرت عنها.
وقد كانت الخطة مبتذلة إلى حدّ أنها كانت جليّة تماماً، وهذا بالطبع عيبٌ من عيوبها. فقد جرت على النحو التالي: تصعيد الأزمة الاقتصادية بحثّ قبائل بجا في شرق البلاد على إغلاق ميناء بورتسودان وأنابيب النفط، ثم دفع أعوان الزمرة العسكرية داخل «قوى الحرية والتغيير» إلى إعلان انشقاقهم وتنظيم تظاهرات احتجاجية في الخرطوم تُحمّل المدنيين دون سواهم مسؤولية تردّي الأوضاع المعيشية وتناشد العسكريين إقالة الحكومة وتشكيل حكومة بديلة. ثم يأتي الانقلاب ويظهر البرهان بمظهر «المُنقِذ» بدعم شعبي واسع.
غير أن مطلق عاقل يعلم أن «ما كلُّ ما يتمنّى الْمرءُ يُدركه» وأن الرياح تجري «بما لا تشتهي السفنُ». والحال أن القوى المدنية الديمقراطية السودانية بإمكانها مخاطبة العسكريين بما جاء قبل البيت الذي اقتبسنا منه في قصيدة المتنبّي الشهيرة: «كم قد قُتِلتُ وكم قد متُّ عندكمُ ثمّ انتفضْتُ فزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ، قد كانَ شاهَدَ دفني قبل قولهم جماعةٌ ثمّ ماتُوا قبل من دفنوا». إلا أن أحداث السودان كانت على مرأى من الجميع في البلاد وخارجها، فلم تنطلِ شهادة أعوان العسكر السياسيين على أحد، لاسيما أن التظاهرة المضادة التي دعت إليها القوى المدنية الديمقراطية قبل الانقلاب بأربعة أيام جاءت عارمة وأعظم بكثير من المسرحية السياسية الباهتة والفاشلة التي أخرجها العسكريون.
ولو أضفنا إلى ذلك أن الدول الغربية كانت قد أعطت مؤشرات واضحة لا لبس فيها إلى أنها لن تقبل بانقلاب عسكري، وقد جرى الانقلاب بُعَيد زيارة المبعوث الأمريكي الذي جاء يحذّر من الانقلاب ويؤكد دعم واشنطن لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك، لأمكن أي مبتدئ في شؤون السياسة ذي حدّ أدنى من الفطنة أن يدرك أن الانقلاب تمّ في غير أوانه وأنه بالتالي محكوم بالفشل، إذ نجم عنه خياران لا ثالث لهما: إما إقرار العسكر بإخفاقهم وتراجعهم عن كافة الإجراءات التي نفّذوها، أو إغراق البلاد في فيضان من الدماء يضع مصيرها الوجودي على كفّ عفريت. أما المحاولات الدولية لإيجاد مخرج من الأزمة برعاية مساومة بين القوى المدنية والعسكر تعيد البلاد إلى ما قبل الانقلاب، فمحكومة بالفشل مثلما هي محاولة التوفيق بين زوجين تزوّجا من غير حبّ، ثم وصلت العلاقة بينهما إلى حد الكراهية والطلاق مصحوباً بالعنف الجسدي.
ذلك أنه بات واضحاً للجميع بمن فيهم الأكثر سذاجة أن الطغمة العسكرية التي شكّلت العمود الفقري لنظام عمر البشير ليست بشريك مؤتمن في القضاء على النظام عينه الذي سادت من خلاله طيلة عقود، متمتّعة بامتيازات جمّة، وأنه بالتالي لا مناص من إزاحتها وتفكيك كافة آليات تحكّمها بالسلطة السياسية، من أجل وضع البلاد على سكة الحكم المدني الديمقراطي الذي تتوق إليه غالبية شعبها الساحقة. والحقيقة أن الوضع الذي نجم عن مساومة عام 2019 بين العسكر و«قوى الحرية والتغيير» شأنها في ذلك شأن أي مساومة بين نقيضين لا يمكن التوفيق بينهما، ذاك الوضع لم يكن سوى حالة انتقالية تتيح لكل طرف التقاط أنفاسه والاستعداد لجولة الصراع القادمة لا محال. وقد تصرّف العسكر بوحي من هذا الإدراك، بينما تصرّفت معظم القوى المدنية التي شاركت في المساومة وكأن هذه الأخيرة خطة طريق حقيقية نحو تحقيق الحكم المدني المنشود.
فكانت النتيجة أن العسكر شدّوا الخناق تدريجياً على شركائهم المدنيين في المؤسسات الانتقالية، بما بيّن بجلاء أنهم ما زالوا أصحاب النفوذ الوحيدين الحقيقيين، ماسكين بزمام الأمور.
ولو كانوا أكثر حنكة لاستمرّوا بتأجيل ما لا يروق لهم من بنود مساومة 2019 وبتعقيد الأمور الاقتصادية وتذكية نار الفتنة السياسية، إلى حين بلوغ النقمة الشعبية على حكومة حمدوك حدّاً يجعل غالبية أهل السودان تتقبّل «حركة تصحيحية» ينفّذها العسكريون. أما وقد تسرّع هؤلاء بتنفيذ انقلابهم قبل أوانه، فقد فضحوا حقيقة الأمور وقضوا على أوهام القوى المدنية التي كانت لا تزال تؤمن بإمكان السير بصحبتهم إلى نهاية مطاف التغيير الديمقراطي.
لذا، فإن المساعي الدولية سابقة الذكر التي تسعى وراء تحقيق مساومة جديدة بين العسكر السودانيين وحمدوك وفريقه، إنما تمدّ خشبة خلاص للعسكر وتؤدّي خدمة لهم وليس لشعب السودان.
فعلى من ينوي خدمة الشعب السوداني أن يمارس الضغط على القوات المسلحة تعزيزاً لضغط الجماهير من أجل خلع قادتها ومحاكمتهم، وحلّ «قوات الدعم السريع» واعتزال العسكر الحُكم السياسي وتسليمهم إياه كاملاً غير منقوص للقوى المدنية. أما بغير ذلك، فلا مخرج للسودان من أزمته التي بلغت درجة الغليان.
كاتب وأكاديمي من لبنان
11 نوفمبر، 2021