خلال سنوات عملي في (السوداني)، قمت بإجراء المئات من الحوارات، في مختلف محاور حياة أهل السودان، أشعر بالرضا عن جلها، وغير راض عن قليل منها. أحبّها الي نفسي، كانت ولا تزال، حواراتي مع الأدباء والمفكرين، البروف علي المك، والمجذوب، والأستاذ محجوب شريف، والتجاني سعيد، وبروف عبد الله الطيب، والإعلامية المقتدرة الأستاذة زينب البدوي. ومن الفنانين، سواء التشكيليين من أمثال العمالقة، الفنان العالمي الأستاذ عثمان وقيع الله، والأساتذة العريفي وبسطاوي، وبروف رباح، وحتى المحدثين، راشد دياب، وفيض من الذين تركوا بصمات واضحة، في مسيرة الفن السوداني.
الموسيقيون وأهل المغنى، بدءاً بحيدر حدربي، وحنان السجانة، ومحمد وردي، ومحمد منير، وشرحبيل، الذي لا زلت، على قناعتي، بأنه من أجمل الأصوات السودانية، على إطلاقها، وقد افتتن الناس بصوت (الحوت)، في مقبل الأيام، وهم لا يعلمون، أنهم إنما افتتنوا بقرار (شرحبيل) في صوته، وقد يقول خبراء الصوت، بغير ما ذهبت، مثلما انطلى على الناس، خدعة أداء محمد الأمين، لـ ( ربيع الدنيا)، ولله الحمد، وسميته من أميز شعراء الأغنية، ليتنا نستمع إلى ما يقوله (جازياً):
بشوفه متين أشوفه متين
عشان أفرح تعود روحي وأتوه في عيونك الحلوين
ومن ليلين على خدك
تهب أنسام تجينا عبير
بينا يهب شذى النيلين ويبعدنا وعليك يغير
ثم أحمد الجابري، وفرقة الزايديكو الأميركية، ومشاهير من الأجانب مثل محمد علي كلاي، والفنان (كات ستيفن)، الذي أشهر إسلامه، وغير اسمه إلى (يوسف إسلام). بيد أن واحداً من احب حواراتي لنفسي، كان وسيظل، حواري مع فريق (عقد الجلاد)، فهو ذو صبغة شخصية بحتة.
وقد صادفتني مواقف متباينة، خلال الإعداد لهذه الحوارات، أو أثناء أو بعد نشرها، قصص طريفة، وردود أفعال عنيفة، مثلما حدث معي، حين نشرت في صفحتي الوسط، وفي الذكري الأولي لانتفاضة أبريل الموؤدة، حواراً مع عملاق الاغنية السودانية الأستاذ محمد وردي، يقابله حوار مع شاعر الشعب، المستحق للقبه، الأستاذ محجوب شريف، في الصفحة المقابلة، وكانا نجمي الانتفاضة ، دون جدال، فثارت ثائرة كيزان الصحيفة، وأسمعني صاحبها، من اللغو، كلمات لاتزال ترن في مسمعي، الي اليوم، لا ما كان تسميها الميدان
ثم إن الصحيفة نفدت، في ذلك اليوم، قبل رصيفاتها العتاة، كالسياسة والاسبوع، من الأسواق، قبل أن تفيق الخرطوم تماماً، من إغفاءة الفرح، ففرح الكوز، وجاءني متهللاً، يحمل أخبار دار التوزيع ودار تهامة، وكان يعلم سبب النفاد، وبمكابرة غير محمودة، انتحي بي جانباً، وعاتبني بالقول، وريالته سائله، يا ملك المرة الجاية، نزلو واحد بس ما تنزلوهم الاتنين (وجه ضاحك).
ثم أن الأقدار الصحافية، قذفت بي في لجة حوار، مع عملاق ، من عمالقة الغناء والموسيقى في السودان، الأستاذ (عثمان حسين)، ذهبت للقائه بمشاعر متنافرة شتى، فرح وقلق، ومشاعر من بينها، معرفته الوثيقة بكثير من أهلي بالشايقية، وذكريات غابرة، لمشاهد وصور تتحرك بيسر ودعة، في بركة الوجدان الساكنة، بمجرد سماعك صوته، صادح، متميز بنبرة لا تشبه غيرها، واصداء لأغنيات تنبع من داخل ذاتك، لتصب في ذاتك، ونساء عاشقات، ورجال أسرى في محراب الهوى والجوى والشغف اليائس.
أوصلني عم (محمد) سائق الصحيفة، إلى الدرب الأخضر، وانتحي نيماً ظليلاً، أوقف تحت رحمته (البوكسي)، ليأخذ إغفاءة (السُّكَّري)، وثؤبة حرى… صحبها بقوله: يا ود الملك صحيني لمن تجي مارق.
في البيت المتواضع، جلست إلى الأستاذ، وانحلت عقدة من لساني، ساءلته، فحدثني وحكي وأسرف في الحكي، وأنا أكتب، حتى نفدت أوراقي. ثم حان موعد الانصراف، سار معي في صحن داره، والنهار قائظ، حادثني كأنني ولي حميم، زالت (صدمة النجم) مني، فانطلقت أحدثه، كأنه ولي حميم، ولكنني ولبرهة، وبحس صحفي مرهف، أحسست من خلال لغة جسده، بأن الحديث لم ينته، وأن للحوار بقية، صمت فجأة، ثم بادري بالقول، أحكي ليك قصة البطيخة؟ فقلت إليّ بها.
قال أبوعفان، ونحن علي مشارف الخروج من باب منزله، والتأثر يبين علي وجهه، قبل عدد من السنوات، كنت قد انتهيت لتوي، من أداء حفل عرس، كانت الساعة تشارف على الثالثة صباحاً، وكنت مرهقاً، وفي شوق شديد لفراشي، لم أتوسط مقعدي في السيارة تماماً، حتى سمعت صوت شخص بلكنة، يناديني يا أستاذ يا أستاذ، التفت فوجدته شاباً جنوبياً، حييته، فقال لي إنه فلان، وإنه معجب بي، شكرته، وهممت بالانطلاق، ولكنه قال لي : يا أستاذ والله أنا بحبك جنس حب، فقلت له: شكراً يا ابني، فقال لي: انتظر هنا، أنا جايب ليك هدية، عشان تتأكد من حبي ليك، فقلت: صبراً وطاعة.
غاب الشاب برهة، وعاد يحمل في يده بطيخة، ناولني البطيخة، وهو يقول: دي هدية يا أستاذ مني ليك، وتقدير وعرفان. قبلت الهدية، بطيخة الثالثة صباحاً بتوقيت أم درمان.
.سكت ابوعفان لحظة، وقال: لقد أهداني الناس، في مسيرة حياتي الفنية، هدايا يقصر الوصف عن جمالها، وعدها، ولكن بطيخة هذا الشاب الجنوبي، كانت أجمل هدية، وأبلغها أثراً في نفسي، من أي هدية، أهدانيها معجب في حياتي. وأشهى بطيخة اكلناها وعائلتي، تحلية الغداء في اليوم التالي.