الخطة التي نفذها جبريل ومناوي في التحالف مع مجرمي الحرب حميدتي والبرهان لبناء دولة بوليسية ديكتاتورية مسلحة تقضي على مكتسبات ثورة ديسمبر، هي مفارقة تراجيدية نستجلي منعرجاتها في سياق قوانين التحولات الاجتماعية وأثر الموازنات الداخلية والخارجية التي تحكم عالم اليوم وخصائص مرتكزات الثورة السودانية.
الخطوة التي اقدما عليها تتسم بقصر نظر ينفذ لكل مراميها لدى جبريل ومناوي، لأنها ببساطة لا يمكن أن تحقق الاهداف الخفية والمعبر عنها بالافعال، وهي استخدام منطق القوة لفرض رؤيتهما لحكم السودان تحت مظلة التحالف مع القوات المسلحة والجنجويد، وهي وضعية خيانة يعرض عنها حتى عقلاء اللصوص ، وذلك لعدة أسباب أولها أنهم يعتقدون أن الدعاية التي يحتمي خلفها هذا الفعل يمكن أن تجييش أتباعهم المتخيلين على أساس مصلحتهم في فرض سيطرتهم على الدولة التي همشتهم ليأخذوا حقهم بالقوة، وهذا موقف متمكن من عقلية جبريل الى درجة أنه لم يستطع أن يتحلى بالمهنية حينما عبر عنه أمام أتباعه بطريقة فجة في أول يوم لتوليه وزارة المالية، وخطل هذا التفكير هو أن تحقيق هذه الخطة اعتمد على باطل وهو التحالف مع حميدتي والبرهان، والأخيرين بالضرورة أعرف منهما بهذه النوايا، بل ويعرفان متى سيكون اليوم واللحظة التي يفضون فيها هذا التحالف، ذلك لأنهم يقفون في موضع أعلى منهم في هذا التحالف، ليس عسكرياً فحسب وانما تكتيكياً، لأنهم بمجرد ادخالهم في هذا التحالف يكونوا تلقائياً قد تمكنوا من تجريدهم من السند الدستوري والقانوني والأخلاقي والاجتماعي، وقد تناسى جبريل ومناوي أن هذه القيم والمرتكرزات التي جردهم منها البرهان بهذا التحالف هي الأسس التي تتكون على أساسها رؤية السودانيين عن الحق والعدالة والسلام، والمجموعات المهمشة في جميع انحاء السودان ودارفور على وجه الخصوص وإن تعرضت للفقر والحروب والانتهاكات والتهميش فهي لاي يمكن ان تمنح مشروعية للفعل، ومنشأ انعدام التأيد يأتي في البدء من استحالة استيعاب أي تبرير لتحالفهم مع مجرمي الحرب المعروفين لديهم أكثر من جبريل ومناوي، فالضحية الذي اغتصب ونهبت ممتلكاته واحتلت أرضه، أوعى بمصالحة ممن يدعي المطالبه بها بالوكالة، لذلك لا يمكن خداعهم بأن دعم وتقوية الجنجويد والبرهان بالتحالف معهم والغاء اتفاقية سلام جوبا سيجعل الجنجويد يخضعون للقانون والمحاسبة ويسلموا الأرض التي وطنوا فيها أتباعهم والمجموعات المستجلبة لتغيير البنية الديمغرافية للمنطقة بأكملها، هذا غض النظر عن حقيقة كون جبريل ومناوي يقودان مجموعاتهم المسلحة على أساس عرقي ضيق لا يستوعب ذلك التنوع.
ومن ناحية أخرى فإن مجرمي الحرب الذين أقاموا معهم هذا التحالف قد سبقوهم بعشرات السنين في تنفيذ خطتهم وتحالفاتها الاقليمية ومؤسساتها الاقتصادية العابرة للحدود وذهبوا فيها الى أقصى حدود العمالة لفرض سيطرتهم على الدولة وتقديمها بشعبها ومواردها لمن يدفع، وما تحالفهم معهم سوى حلقة صغيرة ضمن هذا المخطط، ويتحالفون معهم للحاجة الماسة لمؤيدين، ولذلك ستكون عينهم باستمرار على من يملكون مصدر القوة والمبدئية في التمسك بأهداف الثورة، ولن يكترثوا لمن يباع ويشتري، وقد جعل هذا التحالف خطوط فاصلة بينهم والرافضين للحكم العسكري، وهم السودانيين في كل ربوع الوطن، الذين دفعوا ثمناً غالياً من أجل اقامة دولة الحرية والعدالة والسلام، وقد أكدوا على طول مسار مقاومتهم السلمية للانقاذ وبعد انتصار الثورة أنهم الاقدر على تحقيق هذه الأهداف وإن تطاولت العراقيل، فقد تمكنوا من الاطاحة بأعتى ديكتاتورية في المنطقة.
والحقيقة أن المتعلمين والمثقفين والمدافعين عن الحقوق في المجتمع المدني والنازحين في دارفور قد اختلفوا مبكراً مع طريقة تفكير هذه المجموعات المسلحة، لذلك ضاقوا بهم منذ وقت مبكر ، وهذا ما أسفر بشكل واضح عن الضعف الفكري الذي لازم خطاب ومواقف هذه المجموعات المسلحة ، وهو ما قادها بالضرورة في نهاية المطاف للتحلل الأخلاقي بمفارقة المواقف والعهود.
ان انهيار هذا المنحى وشيك لتناقضاته الداخلية وتعقيداته الدستورية والسياسية والدولية، فالتحالف مع المرصودين دولياً في ظرف انقلابي علي الوثيقة الدستورية التي حظيت باعتراف وحماية المجتمع المحلي والدولي هو خيانه كارثية العواقب، و وفقاً للقاعدة الأصولية في الاثبات لا يمكن أن تدعي تحقيق مطالب مشروعة على أساس باطل، والفصيلين يعرفان في الوثيقة الدستورية على أنهما شركاء في اتفاقية سلام جوبا، وهو سند دستوري رفيع لكنهم تخلوا عنه بانقلابهم على العملية الديمقراطية، وهو ملمح آخر لانعدام الأساس الفكري، وفي المقابل فإن المعارف الفكرية التي تتسلح بها حركة النضال السوداني ضد الديكتاتوريات يقدمها الشعب اليوم كدروس مجانية لو كانوا يتدبرون بالنظر في إستدامة المقاومة صعوداً ونزولاً وترجمة تكتيكاتها في شعارات عملية تعبر عن ادراك صيرورة التغيير ” الثورة بدت يادوب”، وعقلنة التحالفات ” اخوانك يا بليد” وتحديد الاعداء بدقة ” برهان وسخان.. جابو الكيزان” والمواجهة والفعل ” اشتغلو شغلكم ونحن بنشتغل شغلنا” والتعلم من التجارب، ” ما تحمي الترس الترس بحميك، وازاحة الترس ليس انتصاراً ولا نهاية المعركة، وهي سلسة معارف بسيطة في ظاهرها عميقة في معانيها، والمكتسبات التي حققها الشعب السوداني بالوثيقة الدستورية ترى وكأنها لا تتناسب وحجم التضحيات، لكن النظر للمكتسبات على المستوى الاستراتيجي هو ما جعل الجميع يساند حكومة حمدوك من منطلق قناعة راسخة بأن الثورة مراحل بدأت بتوقيع الوثيقة، ولن تنتهي الا بتحقيق مطالب الشعب، هذا ينطبق على اتفاق سلام جوبا لو كانوا يعقلون، ولكن المكونين المسلحين تقاضيا عن القراءة المنطقية لجدلية التغيير التراكمي وأثره في تشكيل كيفية الانتقال الاجتماعي والاقتصادي، ويجهلون بالضرورة أنماط الصبر والنضالات المطلوبة لتحول المجتمعات من العنف الى الديمقراطية. إن ضيق أفق الجنرالات هو مقتل تحركاتهم، والا لادركوا أن تحقيق بنود الاتفاقية يمر عبر صراع اجتماعي كضرورة جدلية لمعطيات الواقع الذي ورثته ثورة ديسمبر من نظام البشير، الا انهم قفزوا الى مصالحة العدو على طريقة متلازمة ستكهولم وهي مرحلة اعجاب الضحية بالجاني.
في نهاية الامر نقول مبروك للشعب السوداني خرج جبريل ومناوي من خارطة الثورة السودانية وسقطوا مثل احزاب الفكة التي طردت من المشهد مع نظام البشير.
نواصل حول العواقب والمآلات المنظورة لمنزلقات هذا التحالف.
aliagab@yahoo.com