تدفقوا في الشوارع كفيضان ضخم مدمر ينذر بميلاد جديد. لم تفتر عزائمهم ولا عرفوا خوفاً من عاقبة. كانوا يهتفون بدولة مدنية ويتشوقون لحرية وانعتاق من حكم العسكر كيفما كان طابعه وبأي شكل زُخرفت مبرراته. القطع المتعمد لخدمة الإنترنت لم يهتموا به أبداً. ولا اهتموا بإغلاق الجسور وبعض الشوارع الرئيسية داخل المدن، ولا بحملة الاعتقالات الواسعة، كل ذلك لم يصرفهم عن مبتغاهم الذي لم يحيدوا عنه قيد أنملة.
على الرغم من كل تلك العقبات، فاضت الشوارع بالجماهير في مواكب متراصة الصفوف تنشد حكماً مدنياً وتستهجن تسلطاً عسكرياً وتمقت كافة مظاهر الاستبداد الذي طالما ارتبط في الأذهان بفساد أيقن الناس كم كان فادحاً ضرره، علماً بأن المواطنين البسطاء هم وحدهم الذين تجرعوا ويلاته طوال ثلاثة عقود كالحة من تاريخ السودان.
إن الذي حدث لا يقل عن تسونامي هائل يتعذر قياس ارتفاع أمواجه وسبر غورها. أما مركزه الأكثر تفجراً وضرراً وذعراً فيتمثل في منصة قيادة الانقلاب العسكري تحت إمرة البرهان وحميدتي والمسبحين بحمدهما من كهنة هيكل المال والجاه والإتجار بالدين. هؤلاء من الصعب أن يستسلموا للفيضان الشعبي الجارف، وسوف يحرصون في مقبل الأيام على اختبار صبر الشارع وصلابة عوده. إنهم يخشون خشية لا مزيد عليها من المصير الذي ينتظرهم فيما لو خضعوا لإرادة الشارع وتراجعوا عن انقلاب محكوم عليه بفشل ذريع. إذ إن ملفات محاكماتهم تكاد تكون جاهزة … وهي ملفات تشمل جرائم بجنايات شتى اقترفت في حق الشعب، من ذلك مجزرة الاعتصام دون أن تقتصر عليها. لحسن الحظ، أن المجتمع الدولي، وخاصة الدول العريقة في ديمقراطيتها، أصبح مراقباً يقظاً للوضع، ومن غير المتوقع أن يتوانى لحظة في الإدلاء بشهادة شاهد شهد كل شيء. ذلك أمر يفاقم ورطة الانقلابيين ويزيدهم خبالاً على خبالهم، وطرداً مع مرور الوقت.
الإخوان المسلمون، من جهتهم، كانوا يقفون وراء تحريض البرهان وزمرته تحريضاً مباشراً وغير مباشر وحثهم على تنفيذ انقلابهم، بعدما زينوا لهم فرص نجاحه وتضاؤل إمكان اخفاقه. هؤلاء الإخوان المسلمون لم يدخروا جهداً في مساندتهم للانقلاب وتزويد قادته بدعم لوجستي من مواقع عملهم داخل الدولة العميقة، واتاحة معلومات استخباراتية حساسة لهم، من قبيل نقاط قوة الشارع ونقاط ضعفه وقياداته وكيف يتم التعامل معها، اعتقالاً أو تصفية.
في الواقع، وبعد السقوط المدوي للإنقاذ، انقسم الإخوان المسلمون إلى تيارين، أحدهما عقلاني يقترح الابتعاد عن الساحة السياسية في السودان بعدما أصبحت لا تطيق سماع اسمهم دون أن تستتبعه بأقذع الألفاظ سباً ولعناً. ضمن هذا التيار نجد عبد الوهاب الأفندي وأمين حسن عمر، والأخير قد وصلت به الجرأة حد المطالبة بإنصاف الإخوان والتعامل معهم بديمقراطية بدلاً من إقصائهم. وهو بذلك ضمنياً يسلم بإبعاد جماعته عن المشهد السياسي، على الأقل في المستقبل المنظور، ريثما تنشأ ظروف مواتية. التيار الثاني يقف في صدارته وزير الخارجية الأسبق، علي كرتي، ومعه الكتيبة الأمنية للجماعة وكتائب الظل التي لا يعلم إلاّ الله عددها وعتادها؛ فهؤلاء يرون أن عودة الإخوان للحكم أمر حتمي توجبه دواعي إصلاح ملحة لحال البلد، إذ إنهم سوف يستوعبون جيداً الدروس المستفادة من حكمهم السابق للسودان، علاوة على الكفاءات العلمية التي تحظى بها عضويتهم! وربما يشيرون بذلك، من طرف خفي، إلى حجج إخوانهم في مصر الذين يزعمون أن استبعادهم من الحكم ينطوي على خسارة كبيرة للبلد يجب تفاديها!!!
في موازاة ذلك، فإن قيادة الحراك الشعبي الحالية، سواء داخل السودان أو خارجه، وهي قيادة بديلة بحكم حملة الاعتقالات الواسعة لقيادات الصف الأول، ينبغي عليها أن تبتدر حواراً فورياً غايته تحديد التوجهات المستقبلية للحكم، ومعرفة الدوافع التي حدت بالانقلابيين للنكوص عن التزاماتهم بموجب الوثيقة الدستورية. بيد أن هناك قضايا أخرى كثيرة لا بد من دراستها، لكن من المستحسن أن يصار إلى البت فيها عقب الخروج من الأزمة السياسية الراهنة، وبعد إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين، وعلى رأسهم د. عبد الله حمدوك، بطبيعة الحال.
من هذه المواضيع التي يمكن إرجاؤها، هناك العلاقة مع بعض أطراف اتفاقية السلام، لا سيما بعدما تأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه الأطراف توظف قضايا أقاليمها لتحقيق مكاسب ذاتية، وبالتالي تضع قضايا وطنية حساسة على الطاولة برسم البيع لمن يدفع أكثر.
ونظراً للاستقطاب الجهوي والاثني الحاد الذي ورثناه من الإنقاذ، فإن تحديد استراتيجية تعامل عادل وشفاف مع بعض أطراف اتفاقية سلام جوبا تستدعي أناة وحيطة شديدتين حتى لا تصاب وحدة البلد في مقتل وفي وقت حساس، مفرط في حساسيته.
نقطة أخرى تنضاف لمهام القيادة الراهنة للحراك الشعبي، وهي ضرورة فتح قنوات تواصل مع العالم الخارجي، وخاصةً مع دول الديمقراطيات العريقة. من شأن هذا التواصل أن يمهد الطريق لعلاقات سلسة وذات نفع متبادل بين الأطراف المعنية، وذلك بمجرد تراجع الانقلابيين عن انقضاضهم المتوحش على الديمقراطية.
أخيراً، سوف يستمر الحراك الشعبي إلى أن يسقط المجلس العسكري ويخرج من ميدان السياسة إلى غير رجعة. إذ يدرك الشارع أن البديل الوحيد للحكم المدني سيكون حكماً لا يقل شراسة عن الإنقاذ ولن يستنكف دقيقة من الفساد والاستبداد والنفاق. فإذا كانوا يريدون حقاً تصحيح مسار الثورة، فلماذا يعتقلون النشطاء في أماكن غير معلومة؟ أعودة أخرى لبيوت أشباح جديدة، أم دخول للأقبية ذاتها؟
تباً لهم ولبيوتهم وأقبيتها وأشباحها!